كتب قصائده باللغتين العربية والبولندية، وشارك في دواوين مشتركة مع شعراء بولنديين، كما نُشرت نصوصه في الصحافة الثقافية البولندية، ما جعل الشاعر والمترجم العراقي هاتف جنابي صوتاً بارزاً، وحلقة وصل فاعلة بين الثقافتين.
أسهم في تقديم أبرز الأصوات الشعرية البولندية المعاصرة إلى اللغة العربية، من خلال ترجمات ودراسات نقدية، مكّنت القارئ العربي من الاطلاع على الشعر البولندي الحديث.
في إحدى محطات المنفى الطويل، تتشكّل تجربة جنابي، المولود في مدينة النجف، والمقيم في بولندا منذ عام 1976، حيث نال شهادتي الماجستير والدكتوراه منها، وتولى التدريس في جامعاتها، مكرّساً حياته للبحث والكتابة والترجمة والشعر.
“الشرق” حاورت الشاعر بمناسبة صدور ديوانه الجديد “لا يشبه نفسه مع البولنديات”، حول الكتابة والمنفى، وتجربته الثنائية اللغة.
يشكّل ديوانك الأخير امتداداً لمسيرة شعرية تبدأ من أواخر الستينيات، وتجربة موازية في الترجمة من البولندية إلى العربية، كيف تنظر إلى عملك الجديد؟
ما كتبته في أواخر الستينيات كتمارين فتية نابعة من الحدس والحاجة للتوازن النفسي، وسط واقع قاسٍ ووضع عائلي مضطرب، ولم أجد ما يعبّر عن علاقتي بالعالم سوى الشعر الذي جاءني من دون سعي. حذرني والدي قائلاً: “يا ولدي، سمعت بأنك تكتب الشعر، لكن عليك الحذر، لأنك طالما قرضتَ الشعر ستبقى طوال حياتك حافياً”.
أما الانطلاقة الحقيقية كانت في أوائل السبعينات، مع قصيدة “أسنان المشط” (1971)، التي ألقيتها في مهرجان كلية الآداب، وأثارت حينها ضجة. ديواني الأول “فراديس أيائل وعساكر” صدر متأخّراً عام 1998 عن دار المدى، وتوالت بعده الأعمال في الشعر والترجمة.
الديوان الأخير يجمع بين قصائد كُتبت أساساً بالعربية وأخرى بالبولندية، وتم استعادتها باجتهاد إلى اللغة الأم. ثمة عمل جدي على اللغة، والشكل، والفكرة، والصورة، والموضوع. هناك حساسية ونبرة مغايرتين. أفهم النبرة هنا أيضاً بمعنى الإيقاع الموسيقي. للوجود إيقاعات لا نهاية لها، أغلبها غير مسموع أو محسوس. أنا مهتم به.
هناك نبرة (نبرات) عراقية، وأخرى عربية، وثالثة بولندية ورابعة كونية. وهو بهذا المنظور مختلف وغير عادي. أنا مقلّ في كتابة الشعر عموماً على عكس ما يظن البعض.
مع حضور الشعر البولندي في تجربتك، سواء عبر الترجمة أو التلقي الفني، هل يمكن اعتبار عنوان ديوانك الأخير انعكاساً رمزياً لهذه العلاقة الثقافية الطويلة؟
لا يمكنك إشاحة النظر عن بيئة تتنفس هواءها، وتقرأ وتكتب بلغتها وتطل من نافذتها على العالم لعقود. إنها تسكنك ثقافةً وطبيعةً وفضاء جغرافياً. لبولندا حضور خاص في نفسي. وفي كل الأحوال أنا ابن المكان والزمان الذي أعيش فيه، واللغة والروائح والهمس واللمس والحركة، أنا هذا الحالم الرائي، ابن الغيوم والمطر والثلوج والصحراء والغبار والواحات والقرى والمدن، ابن ما تركته وتتركه اللغة العربية في حياتي وذاكرتي وخطابي.
وإذا كان لا بدّ من تقديم خلاصة فدعني أقول: رغم كل ذلك، يبقى للعربية حصّة الأسد، والفضل الأول في نشأتي. ما أنقذني في الذوبان وفقدان الهوية، هو تلك الفسحة التي حاولت جاهداً الحفاظ عليها بيني والآخرين، وحتى بيني وبين نفسي.
تميّز ديوانك الأخير بتنوّع في الأمكنة والتواريخ والأساليب، واللافت أنه ضم قصائد مكتوبة أصلاً بالبولندية ومترجمة إلى العربية، كيف تصف تجربة الكتابة بلغتين؟
للأمكنة حضور بالغ في حياتي. لا علاقة بين اللغتين العربية والبولندية، الأولى سامية شرقية، وجنوبية، والثانية سلافية، وشمالية. أن تكتب بلغة أخرى غير اللغة الأم يعني عليك الإيفاء بأحد أهم شروط الكتابة، ألا وهو القدرة على التفكير والحلم بواسطتها. إنها ممارسة من الكلام كتابة.
التحدث بلغة ما، لا يعني القدرة على الكتابة بها. بعد مضي عقدين من الزمن على إقامتي، أخذت اللغتان تتنافذان وتتداخلان تدريجياً في أعماقي بدون أن تتنافرا. اللحظة الشعرية هي الحَكَمُ الفصل، فإن خرجت الكلمات الأولى باللغة البولندية حاولت الاستحواذ على بقية العمل ومقاربة نهايته، وأحياناً يحدث أن ينقلب المزاج الشعري وحينئذ تسدد اللغة الأكثر حضوراً في اللاوعي الضربة القاضية لمنافستها.
هكذا تسير الأمور معي كما حدث من قبل مع آخرين، ولعل حالة الشاعر البولندي تشيسواف ميووش خير مثال على ذلك. إذ زاول هذا الشاعر الكتابة باللغتين البولندية والإنجليزية. ومن المفارقات الغريبة، أن دواويني الشعرية الأولى المنشورة بالبولندية كانت تمرّ عبر الترجمة التي أشرفتُ عليها شخصياً، والآن هناك هجرة معاكسة تجري، وأخرى شبيهة بحالة ميووش. لغة الكتابة اختيار وانتماء أيضاً ومعظم ما أفعله محسوب على الثقافة العربية.
معظم تجربتك الشعرية كتبتها في المنفى أو بولندا تحديداً. كيف أثّر الغياب الطويل عن العراق في بنية قصيدتك، وفي نظرتك لوظيفة الشعر؟
منذ بداياتي الشعرية حتى اليوم، أسعى إلى تجديد نفسي والانفتاح على تجارب وثقافات مختلفة. وكان للاحتكاك بالثقافات الأخرى والعمل الدؤوب على تطوير نفسي أهمية قصوى، في تطوير مهاراتي وأفكاري وإيقاعات حياتي.
كنت سابقاً أحد المؤمنين بإمكانية أن يؤدي الشعر وظيفة التحريض والتغيير، ومبهوراً بما قاله أسلافي الشعراء محليين وعالميين. يبدو اليوم مضحكاً ما قاله رسول حمزاتوف: “نحن الشعراء مسؤولون بالطبع عن العالم كله”. علمتني التجارب أن هذه الأفكار عبارة عن عنتريات، تمّ ترحيلها من فضاء الأيديولوجيا إلى الأدب والفن والثقافة، وألصقت بها في زمن النضال من أجل التحرر، والواقعية الاشتراكية.
نعم، يمكن للشعر أن يصرخ بهمس، يدعو إلى التغيير، يفكك الزيف معرّياً وساخراً، إلا أن وظيفته أعمق وأوسع من ذلك. قصيدتي غير مؤدلجة، مشرّعة على كافة الإيقاعات والأشكال، في حدود كونها عملاً فنياً منتمياً إلى صاحبها، وفضائها وثقافتها.
بعد احتكاكك الطويل بالشعر البولندي قراءة وترجمة، كيف انعكس هذا التماس الجمالي على بنيتك الشعرية؟ وهل يمكن القول إن هذا التأثير تسلّل إلى القصيدة العربية التي تكتبها؟
أنا كائن حيوي، أقتبس مادتي من الواقع المعاش والمتخيّل، من الطبيعة والتاريخ والأساطير والثقافات والقراءات والاحتكاك بالآخرين، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون لهذا التماس، صدى وردّة فعل في تصرفاتي وأفكاري وكتاباتي.
أرى نفسي، بقدرٍ ما، أحد المطوّرين لكلا الأدبين، بما أضفته وأضيفه لهما من قبس وبثّ روح جديدة واجتهاد. حضوري يخلق بولندية أخرى في الجانب العربي، وعربية أخرى في الجانب البولندي والعالمي.
بالحديث عن الشعر البولندي، لعبتَ دوراً اساسياً في تقديمه إلى القارئ العربي. هل تنطلق من ذائقتك الشخصية في اختيار القصائد وترجمتها، أم تراعي تمثيل تيارات وتحوّلات في المشهد الشعري البولندي؟
هناك دور مزدوج. أنطلق من اختياراتي أولاً، وغربلة الزمن لتلك الأعمال ثانياً، ودور النقد في التنبيه ثالثاً، وأهمية ما أختاره في سياق التحولات والتيارات الشعرية والنثرية رابعاً. ربطتني معرفة شخصية وصداقة مع كثيرين ممن ترجمت لهم أو كتبت عنهم، وساعدني ذلك في عملي.
برأيك، ما السرّ في بقاء الشعر حيّاً رغم تراجع الاهتمام به أمام صعود الرواية والسينما والفنون البصرية؟
هذا سؤال مهم آخر. “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة”. من لا لغة له لا لسان له. لا يمكن للكتابة وصياغة الأفكار أن تقوم لها قائمة بدونها. وهذا وحده يعدّ كافياً لجعل الشعر حياً ومتمكناً من التأثير، حتى لو كان بشكل غير مباشر أو ملموس.
الشعر سيد الفنون والتعبير، وأهمها من حيث مرجعيّته اللغوية والتصويرية والخيالية، ولا منافس له سوى الموسيقى، التي يحاول احتواءها بإيقاعاته وأشكاله المتنوعة المتجددة.
لابدّ من السؤال عن الشعر والترجمة، ماذا ننتظر منك مستقبلاً؟
لدي مشروع متنوّع أعمل عليه. أواصل ممارسة الشعر، ولديّ ديوانان لم يطبعا بعد، إضافةً إلى كتابة المقالة والترجمة، وأفكر في جمع قصصي القصيرة، وكتابة مذكراتي وسيرتي الشخصية. هناك فكرة لكتابة رواية وربما روايتين، لأن موضوعهما لا يمكن التعبير عنه بالقصيدة.