بعد أشهر من الهجمات المتبادلة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس بلدية نيويورك، المنتخب زهران ممداني، عكس لقاؤهما في البيت الأبيض مساء الجمعة رغبةً واضحةً لدى الطرفين في طيّ صفحة الخلاف وفتح أخرى جديدة تقوم على التعاون والعمل المشترك «من أجل نيويورك التي نحبها».
وقد بدا اللقاء دافئاً، وتبادل الرجلان عبارات الإشادة والثناء.
وتجنَّب الطرفان إطلاق أي انتقادات أمام الصحافيين. وقال ممداني، وهو يقف إلى جانب ترمب الجالس خلف مكتبه: «لقد استمتعت باللقاء مع الرئيس». أما ترمب فقال: «أودُّ أن أهنئ رئيس البلدية، لقد خاض سباقاً رائعاً ضد عدد من الأشخاص الأذكياء، وتغلّب عليهم بسهولة».

قبل أسابيع فقط، كان ترمب قد وصف ممداني بأنه «شيوعي»، وهدّد بحرمان المدينة من التمويل الفيدرالي، لكن الرئيس قلب الموقف رأساً على عقب بعد الاجتماع، مؤكداً إجراء لقاء «رائع ومثمر جدّاً»، وقال: «أعتقد أن نيويورك ستحصل على رئيس بلدية ممتاز.
كلما نجح أكثر، كنتُ أسعد. لا فرق بين الأحزاب هنا، وسنساعده لنجعل نيويورك قوية وآمنة جدّاً». وأضاف بعبارات إطراء: «أشعر بثقة كبيرة في قدرته على القيام بعمل جيد».
من جهته، قال ممداني -وهو اشتراكي ديمقراطي سبق أن وصف ترمب بـ«الديكتاتور» و«الفاشي»- بابتسامة هادئة: «كان اللقاء منتجاً، انطلق من أرضية مشتركة من الإعجاب والحب لمدينة نيويورك. تحدّثنا عن الإيجار والطعام والمرافق، ونتطلع للعمل معاً لتوفير القدرة على تحمل تكاليف المعيشة لثمانية ملايين ونصف المليون من سكان المدينة».
وأشاد ممداني بدوره بأداء ترمب الانتخابي، مشيراً إلى أن الرئيس تفوّق على التوقعات في نيويورك خلال انتخابات 2024 بفضل تركيزه على أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة.

وعندما طرح الصحافيون أسئلة محرجة على ممداني حول وصفه السابق لترمب بـ«الفاشي» و«الطاغية»، ردّ بهدوء: «كلانا كان واضحاً في مواقفه، لكن هذا اللقاء ركّز على نقاط الاتفاق لا الخلاف، وهذا ما يمكن أن يُغير حياة 8.5 مليون نيويوركي».
وسارع ترمب إلى التخفيف من وطأة انتقادات ممداني السابقة، قائلاً ممازحاً: «لقد وصفوني بصفات أسوأ بكثير من الطاغية؛ لذا فهذا ليس مهيناً».
وعندما سُئل سيد البيت الأبيض عن وصفه السابق لممداني بـ«الشيوعي»، أجاب: «لديه آراء، لكننا جميعاً نتغير. أنا تغيّرت كثيراً، وأعتقد أنه سيفاجئ بعض المحافظين وبعض الليبراليين المتطرفين أيضاً».
المليارات الفيدرالية
لا يخفى على المراقبين الدافع وراء هذا التحول من التصعيد إلى التهدئة؛ فرئيس البلدية المنتخب، الذي سيتولّى منصبه رسمياً في الأول من يناير (كانون الثاني)، يحتاج إلى دعم فيدرالي ضخم لتنفيذ برنامجه الانتخابي الطموح؛ والذي يشمل الإسكان الميسّر والنقل المجاني وتجميد الإيجارات وخفض فواتير الكهرباء. أما ترمب، الذي وُلد ونشأ في كوينز، ولا يزال يعدّ نيويورك «مدينته»، فلا يريد الظهور بمظهر مَن ينتقم من مسقط رأسه أو يحرمها من التمويل الفيدرالي لمجرّد أن رئيس بلدية المدينة اشتراكي ديمقراطي.

وخلال لقاء استمر أكثر من ساعة، اتفق الطرفان على ملفات كانت تبدو قبل أيام شبه مستحيلة، من بينها بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة لخفض الإيجارات، وهي خطوة وصفها ترمب بأنها «الطريقة الحقيقية لخفض الإيجارات». كما اتّفقا على خطط لخفض تكاليف المعيشة المتعلقة بالطعام والكهرباء والنقل.
وفيما يخص الأمن، أكد كلاهما أن «نيويورك آمنة هي نيويورك عظيمة»، وتعهدّا بالتعاون حتى في الملفات الحساسة، مثل الجريمة المنظمة والعصابات.
وأشاد ترمب بقرار ممداني الإبقاء على مفوضة الشرطة جيسيكا تيش، التي تربطها علاقة جيدة بعائلة ترمب.
كما شدد الرئيس على حرصه على جعل نيويورك مدينة عظيمة، قائلاً: «كل ما أفعله سيكون جيداً لنيويورك. لقد خفضت أسعار النفط بشكل كبير، وهذا جيد لنيويورك. لا أريد وضع أموال جيدة خلف سياسات سيئة، لكنني لا أتوقع حدوث ذلك. سأساعده كثيراً لأنني أريد أن تكون نيويورك عظيمة».
لوحة روزفلت
وكانت اللحظة الأكثر رمزية عندما أشار ممداني إلى لوحة الرئيس فرانكلين روزفلت المعلقة في البيت الأبيض، وطلب التقاط صورة أمامها. وعلّق ترمب ضاحكاً: «إنه معجب كبير بصورة روزفلت. لقد وجدتُ هذه الصورة في المخازن وأعدت تعليقها».

وفي أقل من ساعتين، تحوَّلت واحدة من أعنف المواجهات الآيديولوجية في السياسة الأميركية إلى شراكة عملية قد تُغيّر وجه نيويورك في السنوات الأربع المقبلة. فترمب يريد إثبات أنه «لا ينتقم» من مدينته، وممداني يريد المليارات الفيدرالية لتمويل وعوده الانتخابية. وقال ترمب في ختام المؤتمر الصحافي مبتسماً: «لو نجح هذا الرجل نجاحاً باهراً، سأكون أول المهنئين… وسأشجعه».
ومهّد ممداني للاجتماع عبر تصريحات تبنّت نبرة تصالحية، معلناً استعداده للعمل مع المسؤولين المنتخبين من كلا الحزبين. كما نفى يوم الخميس ما تردد من تكهنات بأن ترمب يعتزم إحراجه. وقال: «لست قلقاً بشأن الاجتماع. أراه فرصة لعرض وجهة نظري». وأضاف: «من واجبي أن أبذل كل جهد ممكن لجعل المدينة أكثر قدرة على تحمل التكاليف».
على الجانب الآخر، حضّ مشرّعون جمهوريون واستراتيجيون سياسيون الرئيس ترمب على التركيز على أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، محذّرين من أن الحزب الجمهوري قد يواجه خسائر كبيرة في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل إذا شعر الناخبون بأن الرئيس لا يأخذ مخاوفهم بشأن الأسعار على محمل الجد.

