بعد نحو 3 أسابيع من سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، دخلت الخارجية الأميركية على خط الأزمة في السودان بقوة، وحملّتها مسؤولية ارتكاب انتهاكات، ملّوِّحة بتصنيفها “جماعة إرهابية”، وهي الاتهامات التي تنفيها المجموعة المسلحة، مع تصاعد الشكوك بشأن إقرار “الهدنة الإنسانية” المقترحة في السودان.
وحملت تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، على هامش قمة مجموعة السبع، مساء الأربعاء، نبرة أكثر تشدداً وحزماً وتصميماً على إنهاء القتال المندلع في السودان منذ أبريل 2023.
وأشار روبيو بحزم إلى ضرورة “اتخاذ خطوات لقطع الأسلحة والدعم الذي تتلقاه قوات الدعم السريع” بينما تواصل تقدمها، معرباً عن مخاوفه بأن يتحول إلى السودان إلى “بؤرة لنشاط إرهابي”.
واللافت في تصريحات وزير الخارجية الأميركي، إشارته إلى مساع يقودها جمهوريون وديمقراطيون في مجلس الشيوخ الأميركي، لتصنيف قوات الدعم السريع “منظمة إرهابية”، مؤكداً أن الإدارة الأميركية “ستدعم ذلك إن كان سيساعد في إنهاء الحرب”.
واعتبر روبيو، أن قوات الدعم السريع “لا تفي بالتزاماتها، وأن بلاده تمارس ضغوطاً على الدول الداعمة لها لوقف تسليحها”.
وقال إن “انتهاكات هذه القوات ممنهجة، وليس صحيحاً أن تلك الأعمال تقوم بها عناصر غير منضبطة، وأنها متوّرطة في ارتكاب جرائم وحشية بحق المدنيين من بينها اغتصاب النساء”.
مخاوف من عرقلة جهود “الهدنة الإنسانية”
وفي رد على الانتقادات، اعتبر عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، الباشا محمد طبيق، أن هذه التصريحات “غير موفقة”، ومن الممكن أن تعرقل جهود الهدنة، ولا تخدم مسار الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، والسعودية، ومصر، والإمارات)، ولا المبادرة الأميركية لإقرار “هدنة إنسانية” في السودان.
ولفت إلى أن الطرف الآخر، في إشارة إلى الحكومة والجيش، من الممكن أن يقرأها في سياق انتصار سياسي ودبلوماسي “الأمر الذي يعزز من رفض سلطات بورتسودان لأي هدنة، ويدفع نحو الاستمرار في التصعيد العسكري”.
ويرى مراقبون أن “خطوة تصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية، ربما تنسف الجهود الأميركية تماماً باتجاه تسوية سياسية في السودان، في الوقت الذي لن تغامر فيه واشنطن بمواجهة عسكرية على الأرض، لتعقيدات عدة تحيط بالمسألة، وعزوف ترمب عن أوجه إنفاق غير مجدية بنظرة كهذه”.
وقال آخرون، إن واشنطن ستكون مدعوة لتصنيف جماعة البراء بن مالك “تنظيماً إرهابياً”، إن وضعت قوات الدعم السريع تحت نفس التصنيف، على خلفية أعمال وصفوها بالبشاعة، أقدمت عليها هذه الجماعة المصنفة كذراع للحركة الإسلامية في السودان، مشيرين إلى “مخاوف كشف عنها روبيو، وهو يتحدث عن إمكان تحوّل البلاد لبؤرة للأنشطة الإرهابية”.
وفي سبتمبر الماضي، أعلنت الخارجية الأميركية، فرض عقوبات على جماعة “البراء بن مالك” المسلحة، التي تساند الجيش السوداني في الحرب ضد قوات الدعم السريع منذ أبريل 2023.
انخراط أميركي أكبر
قبل ذلك، قال كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والإفريقية مسعد بولس، لـ”الشرق”، إنه “يتوّجب على الأطراف السودانية، وقف القتال فوراً”، لافتاً إلى أنه تم طرح نص قوي لهدنة إنسانية بالسودان.
ورأى محللون أن الانخراط الأميركي في الشأن السوداني “بات أكبر”، مع محاولات حثيثة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، بالضغط على الأطراف، مع قدر من الغضب لما جرى في الفاشر، ما وضع واشنطن تحت ضغط من المُشرعين، وقِسم من الرأي العام.
وعلمت “الشرق” أن الحكومة السودانية ردت على المقترحات الأميركية بشأن الهدنة الإنسانية، مشددة على تنفيذ اتفاق جدة، مع معلومات متداولة حيال اشتراطات بخروج قوات الدعم السريع من المدن التي سيطرت عليها، وتجميع هذه القوات في مواقع محددة.
وحصلت “الشرق” في وقت سابق على نسخة من ورقة أميركية اشتملت على توقيتات ومدة الهدنة وفصل القوات وأي انتهاكات متوقعة، كما شددت على ضمانات لوصول آمن وبلا قيود للمساعدات الإنسانية، ونصت على إنشاء “لجنة تنسيق للهدنة الإنسانية” في السودان وتقارير عن أي انتهاكات لها.
واعتبر بعض المراقبين، أن الإشارات التي صدرت عن الحكومة السودانية، بعد الاقتراحات الأميركية، كانت “متضاربة”، ولم تجد قبولاً أو رفضاً بشكل حاسم، فمجلس الأمن والدفاع السوداني، اكتفى بالترحيب بأي جهود تدعو لإنهاء معاناة السودانيين، موجهاً الشكر للحكومة الأميركية على مساعيها، في حين تعهّد مساعد القائد العام للجيش، وعضو مجلس السيادة، ياسر العطا، بمواصلة القتال، مشيراً إلى أن “الرباعية التي يعرفها تنحصر في دحر الدعم السريع”.
أما رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، فقال إن الحملة التي تقودها ما وصفها بـ”دول البغي والاستكبار” ضد السودان ستنكسر، مؤكداً أن”الشعب السوداني سينتصر فيها”.
تعقيدات داخلية وإقليمية
وعلمت “الشرق” أن اجتماعاً في واشنطن حضره الجانب السوداني، جرت فيه محاولة لتقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية، وطرف في “الرباعية الدولية” بمساعدة من أطرافها الأخرى، إلا أن المحاولة باءت بالفشل.
وقالت مصادر مطلعة لـ”الشرق”، إن واشنطن تعمل وفق مقاربة تقوم على توحيد الموقف الإقليمي، وخاصة الدول الفاعلة، وعلى التوصل إلى وقف نار بشكل عاجل.
وكانت قوات الدعم السريع، رحبت بالهدنة المقترحة، الأمر الذي عدّه محللون، مرونة من قيادة هذه القوات، ومحاولة لصرف الأنظار عن الاتهامات التي تطالها على خلفية أحداث الفاشر. لكن آخرين رأوا أنها إنما تهرب للأمام بقبول الهدنة، في الوقت الذي تواصل فيه عملياتها العسكرية وهجماتها.
وعلمت “الشرق” من مصادر موثوقة في واشنطن، أن” أطرافاً إقليمية تحض إدارة (الرئيس الأميركي دونالد) ترمب على توبيخ الأطراف الداعمة لقوات الدعم السريع، بعدما اعتبرته هذه الأطراف، فظائع ارتكبتها هذه القوات مؤخراً”.
وأضافت هذه المصادر، أن “واشنطن ربما تشهد اجتماعات رفيعة يُناقش فيها الشأن السوداني قريباً، وربما تطرح زعامات إقليمية هذا الأمر مع الرئيس ترمب”.
شروط “غير واقعية”
وأشارت الباحثة في مركز “تشاتام هاوس”، روزاليند مارسدين، وهي سفيرة سابقة لبريطانيا في السودان، في حديثها لـ”الشرق”، إلى أن كبير مستشاري ترمب للشؤون العربية والإفريقية مسعد بولس، شدد على قبول الجيش وقوات الدعم السريع، مبدئياً، ما يشبه “اتفاقاً أولياً” بشأن هدنة إنسانية، بعد مساع من “الرباعية الدولية”، لافتة إلى أن الأطراف تبحث التفاصيل النهائية.
وأضافت أن “رد الدعم السريع جاء سريعاً، مع العلم أن الجيش ربما يتخذ موقفاً متشدداً بعض الشيء، لكن يجب النظر إلى الأمر برمته باعتباره تقدماً في تحسين تواصل الطرفين مع المجتمع الدولي”، خاصة بعد الانتهاكات في الفاشر وبارا، ما دفع وزير الخارجية ماركو روبيو للشك بشأن قدرة ورغبة قوات الدعم السريع للتعاطي مع أي هدنة.
ومضت مارسدين قائلة: “الجيش استبق الهدنة بوضع شروط غير واقعية خاصة فيما يتعلق باستسلام الدعم السريع”.
ولفتت الباحثة في مركز “تشاتام هاوس” إلى أن وزير الخارجية السوداني محي الدين سالم، “تحدث بلهجة تشي برفض جهود الرباعية في إطارها الجمعي”، وهذا يطرح تساؤلات بشأن ما إذا كان البرهان بحاجة لضغط أكبر من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
ورأت أن خطوات “الرباعية الدولية” حظيت بترحيب طيف واسع من رافضي الحرب ودعاة الديمقراطية في السودان، كما خلصت مارسدين إلى أن انهيار الجهود الحالية، تحت أي ظرف، يتطلب تدخلاً سياسياً على أعلى مستوى مرفوقاً بتلويح واضح بعواقب على من يعرقلون مسار الهدنة.
من جانبه، اعتبر رئيس تحرير “إندبندنت عربية”، عضوان الأحمري، أنه لا يرى في الموقف الحكومي السوداني، أي تناقض بشأن الهدنة. متسائلاً: “من خرق الهدنة الأولى لفرض واقع معين؟ هنا السؤال”.
واعتبر أن قوات الدعم السريع، فقدت ثقة الأطراف بعد هجوم المسيّرات على مطار الخرطوم، ثم هجوم الفاشر بعد ذلك، معتبراً أن “هذه المكاسب السريعة ستذهب”.
ولفت إلى أن واشنطن بحوزتها أوراق لجعل الهدنة واقعاً بـ”فرض العقوبات ومنع تهريب المقاتلين والأسلحة والمسيرات للسودان”.
وقال الأحمري إن “الدول المشاطئة للبحر الأحمر لن تقف مكتوفة الأيدي.. هذا رأي شخصي، قد يكون هناك تحرك سعودي – مصري داعم للخرطوم، ومنع أي تحركات تهدد أمن البحر الأحمر والمنطقة”.
سيناريوهات متوقعة حال فشل جهود الهدنة الإنسانية
ووسط شكوك هائلة تحيط بها، استبعد رئيس حزب “الأمة”، مبارك الفاضل، في تصريحات لـ”الشرق”، فشل الهدنة، لكنه استدرك موضحاً أن فشلها سيعني الاتجاه إلى سيناريوهين: “الأول، ممارسة الضغوط على بورتسودان عبر تجفيف إمدادات السلاح والعقوبات، والثاني هو صرف النظر عن السودان، وترك الحرب تستمر حتى يدمر الطرفان بعضهما، ويدمرا البلد”، على حد تعبيره.
ولفت الفاضل إلى أن الإشارات المتضاربة من الحكومة السودانية تعود إلى غياب مؤسسة الدولة “ما يضع القرار لدى الجيش، وحسب التنظيم العسكري يصبح القرار في يد القائد العام للجيش الفريق البرهان”.
وأضاف: “السبب الرئيسي هو رغبة البرهان في حسم الحرب عسكرياً حتى يؤمن لنفسه الاستمرار في الحكم؛ مما دفعه لاتخاذ خطاب تعبوي متشدد”.
وأشار الفاضل إلى تحالفات متناقضة نسجها البرهان حوله لخوض الحرب، خاصة “تحالفه وتمويله لقوى النظام البائد من الإسلاميين بقيادة علي كرتي وزير الخارجية السابق، والأمين العام للحركة الإسلامية حالياً، الذين شكلوا مليشيات تحارب مع الجيش”.
وأشار الفاضل إلى تحالف البرهان مع “القوة المشتركة” (الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا)، وقوات درع السودان بقيادة القائد المنشق عن الدعم السريع أبو عاقلة كيكل، علاوة على توازنات داخل قيادة الجيش خاصة مع نائبه شمس الدين كباشي الطامح للقيادة المسنود بعصبية إثنية تمثل قوة مقاتلة كبيرة في الجيش، ومساعده ياسر العطا الذي لعب دوراً مفتاحياً في تحرير أم درمان، وعُرف بعلاقاته مع الإسلاميين منذ حرب الجنوب 1983 – 2005، وهو أيضاً لديه طموح للحكم”.
ومضى الفاضل قائلاً: “على البرهان أن يوازن بين كل ذلك والضغوط الدولية والإقليمية، التي تدعوه لوقف الحرب مع رأي عام دولي داع لإنهاء المأساة الإنسانية غير المسبوقة دولياً، وكذلك عليه أن يضع في حساباته التحولات في أرض المعركة”.

