كتب خالد بن راشد الخاطر في صحيفة العربي الجديد.
ربما لم يصدّق إلا السذج الرواية الأميركية عن عدم علم الرئيس ترامب المسبق بالضربة الإسرائيلية المبيّتة لقيادة حركة حماس في الدوحة، وعدم علمه بها إلا بعد انطلاق الطائرات، ثم بعد ذلك تحذير الجانب القطري بعد فوات الأوان (وكأنه لرفع العتب)، وقد كان بالإمكان الطلب مباشرةً من رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو عدم تنفيذ الضربة وإعادة الطائرات من حيث أتت. فيما هذه الضربة لم تكن لتحدث إلا بضوء أميركي أخضر، وقد تحدّث مسؤولون إسرائيليون ووسائل إعلام إسرائيلية عن علم وتنسيق مسبقين مع الجانب الأميركي بشأن هذه الضربة. ولكن لنفترض صدق الرواية الأميركية أنه جرى تنفيذها بأمر إسرائيلي مستقل ومن دون علم واشنطن، وأن منظومة الدفاع الجوي لأكبر قاعدة أميركية خارج الولايات المتحدة التي كانت في قاعدة العديد، على بعد بضع عشرات الكيلومترات من موقع الاستهداف، لم تتمكن من رصد الطائرات المهاجمة عبر رحلتها الطويلة، وحاجتها للتزوّد بالوقود مرتين، فهذا يطرح تساؤلاً آخر عن مدى جدوى هذه القواعد والتحالفات ومنظومات الدفاع والتسلح الأميركية ومظلة الحماية الأميركية عموماً.
نعم، قد تكون هناك تقاطعات لمصالح مشتركة بين الطرفين الأميركي والخليجي، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أنها قد تكون آنية متغيّرة، وليست مطلقة أو استراتيجية بعيدة المدى، وقد تتعارض مع مصالح أخرى أكثر أهميةً لأميركا. ولذلك هذا لا يعني الأمان والاطمئنان، والتسليم التام بأن هذا الحليف سيكون معك قلباً وقالباً أو في القارب نفسه دائماً.
… يبدو أن التحالف الأميركي الإسرائيلي أضيف له بُعد مقدس، وأصبح فوق كل التحالفات، والدعم الأميركي اللامحدود واللامشروط لإسرائيل الطامعة في التوسّع على حساب جيرانها وإخضاع دول المنطقة لسيادتها وسلطانها، حتى باتت تشكّل عامل تهديد لاستقلالية دول المنطقة واستقرارها، أصبح يشكّل، في نهاية المطاف، عامل تعارض مع أمن حلفاء أميركا الآخرين في المنطقة واستقرارهم ومصالحهم الاستراتيجية، فإسرائيل يُنظر إليها باعتبارها مشروع استيطان استعمارياً غربياً توسّعياً على حساب دول المنطقة، وبرعاية الحليف الأميركي، فكيف يتم التوفيق بين الحليفين أو الحلفين الإسرائيلي – الأميركي، والعربي – الأميركي؟
دول الخليج لا ينقصها شيء، لا من حيث الدوافع ولا الموارد، ولا العقول، ولا رؤوس الأموال البشرية ولا المادّية
يجب الأخذ في الاعتبار، ومن تجارب حلفاء سابقين، أن الأميركي حليف لا يمكن الوثوق به، ولا الاعتماد عليه، ولا حتى بمنظومات تسليحه. وقد ذكر رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد أن الطائرات وأنظمة التسلح الأميركية عامةً لا تصلح إلا للعروض الاحتفالية، ولا يمكن استخدامها في الدفاع عن الوطن أو الهجوم إلا بعد سماح أميركا بسبب وجود شيفرات تشغيل لدى الأميركيين تمكّنهم من السيطرة تقنيّاً على هذه الأسلحة وإيقاف تشغيلها من خلال البرمجيات، وأن الولايات المتحدة قد تمنع قطع الغيار والصيانة والذخيرة متى ما شاءت، وأن الذين سُمح لهم بامتلاك الشيفرات في الدفاع والهجوم على الدول الأخرى هم إسرائيل وأوروبا، أما العرب فلا. وقبله قال الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق إن الذي يتعامل مع أميركا كالذي يتعامل مع الفحم، لا يناله إلا سواد الوجه واليدين، في تعبير عن الإحباط وخيبة الأمل في حليفٍ يتخلّى عن حليفه بعد أن اعتمد عليه ويتركه لمصيره. وكذلك شاه إيران، وقد كان يُظن أنه حليف استراتيجي قوي لأميركا، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
وقد عبّر عن هذا النمط في السياسة الخارجية لأميركا وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر بقوله إن أميركا ليس لديها صديق دائم ولا عدو دائم، أي أنها المصالح البراغماتية الأنانية البحتة. وقد تخلت إدارة ترامب عن السعودية عندما قُصفت أرامكو قبل بضع سنوات، ثم أتبعتها إدارة بايدن بسحب بعض بطّاريات صواريخ الدفاع الجوي الأميركية منها. وكذلك الحال بالنسبة لتركيا عندما سحبت الولايات المتحدة مضادّات الدفاع الجوي باتريوت منها، وتركتها لمواجهة مصيرها مع روسيا، بعد إسقاطها مقاتلة روسية اخترقت مجالها الجوي السيادي، فأدركت حينها تركيا أن أجواءها قد تكون منكشفة في حال اعتمادها على حليفها الأميركي، والخضوع لشروطه في الحد من نقل تكنولوجيا منظومة دفاع باتريوت الصاروخية، فاتجهت، عوضاً عن ذلك، نحو اقتناء منظومة إس- 400 الروسية، ما أثار حفيظة واشنطن، وأدّى إلى فرض عقوبات على تركيا واستبعادها من برنامج طائرة F-35 الشبحية.
لم يأت ترامب بجديد، بل كشف عن وجه أميركا وسياستها الخارجية بوضوحٍ لا لبس فيه ولا مساحيق تجميل، وهو ما فتئ يروّج بيع الحماية مقابل المال، ولكنه هو نفسه أثبت فشل ذلك بعد قبضه الثمن. ولا ننسى أن حصار قطر قد جرى في فترة رئاسته الأولى، والاعتداء الإسرائيلي عليها في أثناء ولايته الثانية، وبسلاح أميركي. ولك أن تتصوّر لو أن العكس حدث، أن هذه الطائرات خرجت من قطر أو أي دولة خليجية أو عربية لقصف إسرائيل، ماذا كان سيحدُث؟ بطبيعة الحال، محرّمٌ ضرب إسرائيل بسلاح أميركي، ولكنه حلالٌ لا بأس في أن يُضرب به العرب وإن كانوا حلفاء.
إذن، ما الذي على دول الخليج فعله؟ لا بد من إعادة النظر في مفهوم “مظلّة” الحماية الأجنبية عموماً، وتقييمها في ظل التجربة الأميركية الراهنة والتجارب التاريخية السابقة. وقد أثبت ترامب نفسه، وهو أكبر مسوّق للحماية الأجنبية مقابل المال، بأن الحماية لا تشترى بالمال. فالمظلة كانت كاشفة، ولم تكن خالية من الثقوب في أحسن حال.
ولا بد من مراجعة جدوى منظومات التسلح الأميركية، والاستقلالية المطلوبة في تشغيلها واستخدامها، ومدى جدّية الاعتماد عليها في الدفاع عن الأوطان عند الحاجة. وإلا ما الفائدة من منظومات تسلّح ليس زمامها بيديك، إما مشروطة أو مشفرة، بما يحدّ من استقلاليتها وحرّية استخدامها في الدفاع عن الأوطان عند الحاجة، أو تخونك في اللحظة الحرجة.
لم يأت ترامب بجديد، بل كشف عن وجه أميركا وسياستها الخارجية بوضوحٍ لا لبس فيه ولا مساحيق تجميل
نعم للدخول في شراكات، ولا للدخول تحت مظلات، فمبدأ الشراكة يختلف عن الدخول تحت مظلة. ويُفترض أن تقوم الشراكة على مصالح مشتركة مبنية على الثقة والاحترام المتبادل، بينما الدخول تحت مظلة يعني الانضواء والتسليم. لا بد من إدراك مدى الحاجة لبناء قدرات وطنية تمكّن من الحد الأدنى من الاعتماد على النفس في الدفاع والإنتاج العسكري، والدخول في سبيل تأسيس ذلك وتطويره في شراكاتٍ مبنيةٍ على الثقة والاحترام المتبادل، ومصالح استراتيجية بعيدة المدى، مع تعظيم الاستفادة من التحوّلات في موازين القوى العالمية، فلا يليق بدول الخليج ذات الموارد الهائلة، والتي حققت نجاحات وتقدّماً في مجالات عدة، أن تبقى رهينة إلى ما لا نهاية لقوى أجنبية في أمنها القومي، أو حبيسة ثقافة استيراد أصبحت متجذّرة في كل صغيرة وكبيرة، حتى في مجالات حيوية تمسّ بوجودها وأمنها القومي، وتكون عالة فيه على قوى أجنبية أياً كانت، فما بالك إذا كانت غير جديرة بالثقة، ولا يمكن الاعتماد عليها، ولا تخلو من الابتزاز، بالإضافة إلى أن ذلك يُوهم بالاكتفاء وعدم الحاجة لتنمية صناعات دفاعية وطنية، وبالتالي، يعيق تنميتها وتطويرها، ويفوّت فرصة اكتساب المعرفة والتكنولوجيا، ويبقي البلاد رهينة هيمنة أجنبية قد تتعارض مع مصالحها القومية والاستراتيجية بعيدة المدى.
لقد استثمرت دول الخليج، إلى حد كبير، في القوة الناعمة، وإنْ بدرجات متفاوتة، ولكن يبقى أيضا بالتوازي الاستثمار في القوة الصلبة، فالناعمة وحدها لا تكفي من دون قوة صلبة تسندها، ويبقى تأثيرها محدوداً على أي حال، بل قد تكون عامل جذب واستثارة لردات فعل مضادّة بقوة صلبة، خصوصاً في عالم يضرب فيه بالقوانين الدولية والأعراف الإنسانية عرض الحائط، ويسود فيه منطق القوة والغاب، على طريقة نتنياهو – ترامب.
بناء قطاع صناعات دفاعية وطنية خيرٌ لا بد منه، وقد تأخرت دولنا في ذلك كثيراً، فنحن لسنا بدعاً من الأمم ولا من سنن التاريخ، وهذا طريقٌ لا بد لنا أن نسلكه إذا أردنا لدولنا الأمن والاستقرار، والاستقلالية والاستدامة والازدهار، فدول الخليج لا ينقصها شيء، لا من حيث الدوافع ولا الموارد، ولا العقول، ولا رؤوس الأموال البشرية ولا المادّية. ومع ذلك، لن تتمكّن من تحقيق ذلك الهدف بالكفاءة المطلوبة فُرادى. فمن جهةٍ، لا بد من بناء قاعدة للإنتاج الدفاعي المشترك للتكامل في ما بينها وللاستفادة من اقتصادات وفورات الحجم في الإنتاج economies of scale. ومن جهة أخرى، هناك حاجة للدخول في شراكات مع شركاء خارجيين، لتوسعة الإنتاج وتطويره ونقل التكنولوجيا.
استثمرت دول الخليج، إلى حد كبير، في القوة الناعمة، وإنْ بدرجات متفاوتة، ولكن يبقى أيضاً بالتوازي الاستثمار في القوة الصلبة
وإذا كانت لا تزال بين هذه الدول خلافات قد تحول دون تكاملها في مجال التصنيع العسكري المشترك وتطويره، فلتنبذها جانباً، ولتصطف صفّاً واحداً في سبيل تحقيق هدف وجودي مشترك بعيد المدى، ففي نهاية المطاف مصيرها واحد، والتحديات جسام، ومتعدّدة الجهات والجبهات، وهذا يصبّ في تحقيق أحد الأهداف الأساسية لمجلس التعاون الخليجي، وهو الدفاع المشترك بين أعضائه، وبناء قاعدة صناعات عسكرية في سبيل تعزيز ذلك، وإلا ستبقى متفرّقة ضعيفة، وعرضة لعدم الاستقرار والابتزاز وأطماع الطامعين، وتستجدي الحماية من غير أهلها.
ثم بالدخول كتلة واحدة في برامج ومشاريع شراكات مع شركاء نتقاسم معهم قيماً عليا ومصالح استراتيجية بعيدة المدى، كتركيا وباكستان، كما ذكرت سابقاً في فترة الأزمة الخليجية، وكلاهما مؤهل ولديه القدرة على ذلك، يمكن تحقيق مكاسب استراتيجية كبيرة بعيدة المدى للطرفين. فدول الخليج توفر الموارد المالية والاستثمار في البنى التحتية، والبحث والتطوير والتصنيع العسكري، وإنشاء مراكز الأبحاث المطلوبة لذلك، وربط برامج الأبحاث والتصنيع بالجامعات الوطنية، بينما يوفر الجانب الآخر الخبرات في المجالين الفني والتقني، والعمالة، وبناء القدرات، ونقل التكنولوجيا وتطويرها.
وقد تكون البداية بإنتاج الذخائر وقطع الغيار والتجميع، والأسلحة الصغيرة إلى المتوسطة، كالمركبات، وغيرها، والانتقال منها إلى الأكثر تقدّماً كالطائرات المسيّرة، والأنظمة الذكية والذخائر الموجّهة، والدفاع السيبراني، وهكذا إلى مجالات تكنولوجية أعلى، ويمكن في المجالات المتقدّمة الدخول في شراكات مع حلفاء عالميين (كالصين وغيرها) لنقل التكنولوجيا ودعم البحث والتطوير والتصنيع المشترك. ويمكن الاستفادة هنا من تجربة باكستان التي خطت خطواتٍ واسعة في تحالفها مع الصين وشراكاتها في التصنيع الحربي ونقل التكنولوجيا العسكرية، والبناء عليها وتوسعتها لتضم دولاً عربية أو صديقة أخرى، وقد أثبتت الأسلحة الصينية كفاءة عالية في المنازلة الهندية الباكستانية في مايو/ أيار الماضي. ويأتي في القلب من ذلك كله، على أي حال، بناء رأس المال العسكري البشري الوطني، ولا يقل أهميةً عن نظيره المادي، سواء في حال تنمية الصناعات العسكرية محلياً وتطويرها، أو في حال اقتناء منظومات تسلح أجنبية متطوّرة، فلا بد من توطين استخدامها من خلال تمكين العنصر الوطني من نقل التكنولوجيا والتقنيات اللازمة لاستخدام تلك المنظومات وتشغيلها وفك شيفراتها إن وُجدت، ومراكمة الخبرات الوطنية في هذا المجال، وليس اقتناء منظومات متطوّرة، بأموال طائلة، وبفرق تشغيلها، من دون توطين استخدامها.
لا بد من إدراك مدى الحاجة لبناء قدرات وطنية تمكّن من الحد الأدنى من الاعتماد على النفس في الدفاع والإنتاج العسكري
بطبيعة الحال، ليس من المتوقع أن يكون بناء قاعدة صناعات عسكرية متطوّرة باستقلالية كبيرة عن قوى الهيمنة الغربية أمراً سهلاً، إذ من المتوقع أن تعمل هذه القوى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على عرقلته وإفشاله، بطرق شتى، لإبقاء هذه الدول تحت هيمنتها، منها توفير بدائل له قد تكون ظاهرياً مغرية، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها، ولن تكون بالاستقلالية المطلوبة، ولا القابلية للاستدامة. وهنا لا يجب عقد مقارنة من حيث الجدوى الاقتصادية بين كلفة الإنتاج المحلي (خصوصاً في بداياته) بالاستيراد الذي قد يكون أرخص وأكثر تطوّراً، لأنها قد تكون مضلّلة، فهناك بعد استراتيجي يتعلق بالأمن القومي يجب أخذه في الاعتبار، من حيث تنمية القدرات الوطنية وتطويرها في الأجل الطويل ونقل التكنولوجيا. وقد يتجاوز الأمر الإغراءات بصفقات أسلحة بديلة إلى عقوبات، وحظر اقتناء تكنولوجيا التسلح المتطور أو نقلها وما شابه ذلك، ولكن هناك قنوات للتغلب على ذلك والالتفاف حوله، منها الاستفادة من تجربة شركاء مرّوا بهذه التجربة وخرجوا منها بنجاحات مميزة، كتركيا. فمن خلال الشراكة، مع قوى كتركيا وباكستان، يمكن العبور وتخطي تلك المعضلة بسهولة أكبر، والبناء على تلك القدرات والنجاحات، واختصار الزمن بالولوج إلى تقنيات إنتاج أكثر تقدماً وتوسعتها وتطويرها مستقبلاً.
ومن جهة أخرى، قد يكون النجاح في بناء قطاع صناعات عسكرية وطنية بالزخم الكافي عاملاً محفّزاً لنهضة صناعية وتكنولوجية، تكون قاطرة لتنويع الاقتصاد مستقبلاً من خلال عوامل، كأثر التدفقات الإيجابية لهذه الصناعات على بقية الاقتصاد (spillover effects) والآثار الاقتصادية الإيجابية، المباشرة وغير المباشرة، للتجمعات الاقتصادية (economic clustering) للصناعات الدفاعية الوطنية، والمؤسّسات البحثية، والأعمال المساندة، وتعزيزها المعرفة والإبداع والتطوير، وإيجاد فرص العمل، وتعزيز التنافسية الاقتصادية، كما ثبت من تجارب دول سابقة، وغير ذلك، ويبقى تنويع الاقتصاد هدفاً استراتيجياً آخر بعيد المدى، لطالما شكل تحقيقه تحدّياً كبيراً لهذه الدول.

