أزمات بالجملة تنتظر فرنسا بعد سقوط حكومة فرنسوا بايرو في البرلمان
أسبوع سيئ وأسابيع أخرى مشابهة تنتظر فرنسا من يوم الاثنين القادم، فالسيناريو كتب سلفاً، وأولى حلقات مسلسل الأزمة سيتم تصويرها تحت أنظار الفرنسيين الذين سيتابعون بشغف مجريات جلسة الجمعية الوطنية (مجلس النواب)؛ حيث ستسقط حكومة فرنسوا بايرو بسبب رفض أكثرية نيابية متشكلة من اليسار بجميع تلاوينه ومن اليمين المتطرف منحها الثقة بعد الكلمة التي يلقيها رئيس الحكومة. وبموجب منطوق الدستور الفرنسي، فإن كل حكومة لا تحصل على ثقة البرلمان تسقط آلياً ويقدم رئيسها استقالته لرئيس الجمهورية. وبذلك يكون بايرو ثاني رئيس حكومة، بعد سلفه ميشال بارنييه، يطاح به تحت قبة البرلمان ولأسباب: بارنييه سقط بسبب رفض أكثرية نيابية مشروع إعادة تمويل الضمان الاجتماعي الذي يعاني عجزاً مزمناً. وبايرو سيسقط لفشله في إقناع أكثرية نيابية، ولو نسبية، بقبول مشروعه لخفض الميزانية وزيادة الضرائب من غير المس بكبريات الثروات والرواتب والشركات.
وطيلة الصيف، سعى بايرو لإقناع المواطنين بحاجة البلاد للبدء بخفض مديونيتها التي تزيد على 3345 مليار يورو وتشكل 114 في المائة من الناتج المحلي الخام. والتخوف الكبير في فرنسا أن تعمد مؤسسات التصنيف الكبرى إلى خفض مرتبة فرنسا بسبب أزماتها الاقتصادية والمالية، أيضاً بسبب انعدام الاستقرار السياسي.
مع سقوط بايرو، يكون الرئيس إيمانويل ماكرون قد «استهلك» أربعة رؤساء حكومات خلال العشرين شهراً المنصرمة. ومنذ أسبوعين، بدأت الاتصالات لتسمية رئيس حكومة بديل عن بايرو. والمشكلة الأساسية التي يعاني منها ماكرون أن الانتخابات النيابية المسبقة التي دعا إليها بعد أن حل البرلمان بقرار فردي ومن غير دواع طارئة، جاءت بجمعية وطنية تفتقر لأكثرية نيابية من شأنها توفير الدعم للحكومة وتسهيل عملها التنفيذي ومشاريع القوانين التي تحتاج لأكثرية حتى تمر في الجمعية الوطنية.
ومنذ ولايته الثانية، كلف ماكرون 3 شخصيات لترؤس حكوماته تنتمي كلها إلى تياره السياسي الوسطي (إليزابيث بورن وغابرييل أتال وفرنسوا بايرو) فيما الرابع (ميشال بارنييه) ينتمي إلى اليمين التقليدي المسمى «الجمهوريون». والحقيقة أن الأربعة ضموا خليطاً من المجموعتين اللتين يطلق عليهما اسم «الكتلة المركزية». والحال أن استقالة بارنييه وبايرو جاءت بالدليل المؤكد أن هذه الصيغة السياسية لن يكتب لها الحياة، وبالتالي يتعين البحث عن صيغة مختلفة لها عنوان وحيد: الالتفات نحو اليسار ممثلاً بالحزب الاشتراكي. وتفيد معلومات مؤكدة بأن هناك تواصلاً بين ماكرون وأوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي الذي أخذ يطرح نفسه مرشحاً لخلافة بايرو الأمر الذي يثير جدلاً واسعاً داخل الكتلة الوسطية وخصوصاً داخل «الجمهوريون»، وأيضاً داخل «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار (الاشتراكي والشيوعي وفرنسا الأبية والبيئويين).
خيارات ماكرون
ثمة تياران متنافسان داخل حزب «الجمهوريون»: الأول يقوده رئيس الحزب برونو روتايو، وزير الداخلية الراهن، والثاني يمثله لوران فوكيه، رئيس مجموعة الحزب في البرلمان. والحال أن الاثنين يحلمان بالترشح، باسم الحزب، لانتخابات رئاسة الجمهورية التي ستجرى ربيع عام 2027. وبينما يقول فوكيه إنه لن يصوت «بشكل آلي» ضد حكومة يشكلها الاشتراكيون، فإن روتايو يلزم موقفاً مختلفاً بشكل جذري عن منافسه. وبالمقابل، فإن جان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» المتموضع على أقصى اليسار، يعارض جذرياً استعداد الاشتراكيين لتشكيل حكومة في ظل ماكرون. ويقترب البيئويون من طروحات «فرنسا الأبية». من هنا، فإن ماكرون لن يكلف أوليفيه فور تشكيل الحكومة طالما لا ينجح الأخير في إقناعه بأن حكومته لن تسقط لدى أول اختبار، ما يحول الأزمة الحكومية إلى أزمة نظام ويضع الرئيس الفرنسي في موقف حرج للغاية.
من الخيارات المتاحة لماكرون أن يكلف شخصية غير سياسية (من المجتمع المدني) بمهمة تشكيل الحكومة العتيدة. ومجدداً، يطرح اسم تييري بوديه، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي تكون مهمته إدارة حكومة من «التكنوقراط» لإدارة شؤون البلاد والنجاح في تمرير ميزانية عام 2026 التي يتعين، قانوناً، أن تقر بنهاية العام الجاري على أبعد تقدير. والحال أن هناك خلافات جوهرية بين اليمين واليسار حول صورة الميزانية الفضلى بين من يدعو إلى خفض الإنفاق وحرمان المهاجرين غير الشرعيين من مساعدات الدولة في الميدان الصحي مثلاً، ومن يدعو، في الجانب الآخر، إلى زيادة الضرائب ليس على الطبقتين الدنيا والوسطى بل استهداف الرواتب العليا وفرض ضريبة استثنائية بنسبة 2 في المائة على الثروات التي تزيد على 100 مليون يورو.
حل البرلمان
بيد أن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد. فاليمين المتطرف ممثلاً بـ«التجمع الوطني» الذي تتزعمه المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان وحزب «فرنسا المتمردة» يدفعان باتجاه حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات تشريعية جديدة. وثمة اعتقاد لدى «التجمع الوطني» أن انتخابات كهذه ستجعله الحزب الأقوى في البرلمان وربما يحصل على الأكثرية المطلقة بمفرده أو على الأقل، على العدد الأكبر من النواب الذي سيفرض على رئيس الجمهورية تكليفه تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات. ومنذ أسابيع، يعد جوردان بارديلا، رئيس الحزب الشاب نفسه لتسلم هذا المنصب. والقراءة الشائعة للحزب المذكور أن الانتخابات الماضية سرقت منه بسبب التحالف الانتخابي الذي تم بين اليسار بمختلف مكوناته وأحزاب اليمين والوسط لقطع الطريق على مرشحي «التجمع الوطني». ورغم ذلك، فإن الحزب المذكور حصل على 120 نائباً بحيث احتل المرتبة الأولى بين جميع الأحزاب التي تتشكل منها الجمعية الوطنية. كذلك، فإن جان لوك ميلونشون يدفع باتجاه انتخابات تشريعية لا بل أيضاً باتجاه انتخابات رئاسية. وقناعة ميلونشون أنها «الفرصة الأخيرة» بالنسبة إليه لبلوغ الجولة الثانية والفاصلة من هذه الانتخابات وللوصول إلى قصر الإليزيه. والصورة التي يتوقعها أن يجد نفسه بمواجهة مارين لوبان، حيث إن الدستور الفرنسي يمنع ماكرون من الترشح لولاية ثالثة وأن اليمين التقليدي سيكون عاجزاً عن التأهل للجولة الثانية.
عودة شبح السترات الصفراء؟
هكذا تبدو تعقيدات المشهد السياسي الفرنسي فيما الشارع يغلي اجتماعياً. فبعد يومين فقط من سقوط الحكومة، ستشهد فرنسا حركة اجتماعية تدعو لشل الحركة في جميع القطاعات احتجاجاً على السياسات المالية والضريبية للحكومة ورفضاً لمشروع الميزانية الذي أعدته حكومة بايرو، وفيها تجميد الرواتب وفرض ضرائب جديدة وإلزام الفرنسيين بالعمل يومين من غير أجر… وانطلقت دعوة «لنقفل كل شيء» على شبكات التواصل الاجتماعي وتوسعت كالنار في الهشيم بحيث أظهر استطلاع للرأي أن 63 في المائة من الفرنسيين يدعمونها. وبعدها بثمانية أيام، ستنزل النقابات إلى الشوارع والساحات في جميع المدن الفرنسية احتجاجاً على السياسات المشار إليها، ولكن أيضاً لأسباب مطلبية قطاعية. والتخوف الأكبر لدى أهل السلطة أن تكون البلاد على شفا حراك اجتماعي كحركة «السترات الصفراء» التي هزت البلاد وشهدت أعمال عنف واسعة ولأسابيع طويلة وهشمت صورة فرنسا في الخارج.