
حسين زلغوط
خاص_ موقع “رأي سياسي”:

بينما تُقدَّم اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية على أنها خطوات نحو “السلام” و”الازدهار الإقليمي”، تتكشف تدريجيًا نوايا أكثر تعقيدًا وأبعد من مجرد تبادل السفراء أو توقيع اتفاقيات تجارية. فـ”التطبيع” كما يُسوَّق إعلاميًا شيء، والواقع العملي على الأرض شيء آخر.
ما تريده إسرائيل من هذه الاتفاقيات ليس مجرد علاقات دبلوماسية طبيعية، بل ما يمكن تسميته بـ”التطويع الاستراتيجي” للدول العربية: سياسيًا، أمنيًا، اقتصاديًا، وحتى ثقافيًا.
هذا المشروع يُراد له أن يُعيد تشكيل المنطقة على أساس جديد، تصبح فيه إسرائيل مركز النفوذ الإقليمي، وتتحول فيه بعض العواصم العربية إلى أدوات تُنفّذ لا تُفاوض، وتُتابع لا تُبادر.
منذ اتفاقيات “أبراهام” في 2020، والتي شملت تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول خليجية مثل الإمارات والبحرين، بدا جليًا أن الأمور تتحرك بسرعة تفوق منطق بناء الثقة الطبيعية بين شعوب كانت تعتبر إسرائيل كيانًا احتلاليًا لأكثر من سبعة عقود.
لكن لم تكن المشكلة في توقيع الاتفاقيات بحد ذاتها، بل في الطريقة التي تسير بها الأمور بعد ذلك: تغييب كامل للحقوق الفلسطينية، تطبيع ثقافي إعلامي متسارع، انفتاح اقتصادي غير متكافئ، وتنسيق أمني بات يطرح أسئلة وجودية عن السيادة الوطنية.
ان إسرائيل لم تكتفِ بتوقيع اتفاقيات رسمية، بل شنت حملة إعلامية واسعة لتغيير الخطاب العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتصوير الاحتلال على أنه “واقع يمكن التعايش معه”، فيما يُجرَّم كل من يرفع صوته ضد التطبيع أو يدافع عن المقاومة.
وتُقدَّم إسرائيل كمنقذ للشرق الأوسط، حيث تُفتح أمامها أسواق ضخمة في بعض دول الخليج وشمال إفريقيا، لكن هذه الشراكات غالبًا ما تكون أحادية الجانب، تفيد فيها الشركات الإسرائيلية أكثر مما تستفيد الدول العربية، دون أي التزام بنقل حقيقي للتكنولوجيا أو تحقيق عدالة في الأرباح.
ربما الأخطر هو ما يجري خلف الكواليس، حيث باتت أجهزة أمنية إسرائيلية تدخل على خط “مكافحة الإرهاب” في بعض الدول العربية، وهو ما يمنح تل أبيب فرصة ذهبية للتغلغل داخل المؤسسات الحساسة، بحجة “الاستقرار”، بينما الحقيقة أنها تعمل على ربط الأمن العربي بالأجندة الإسرائيلية.
ان كل ما سبق اعلاه لا يمكن فصله عن تجاهل القضية الفلسطينية بشكل متعمد، وتحويلها إلى “ملف إنساني” أو “مشكلة محلية” يمكن حلها ببعض المساعدات الاقتصادية، وكأن القضية لا تتعلق بشعب تحت الاحتلال، بل بمشاكل معيشية يمكن تسويتها ببضعة مشاريع تنموية، وبذلك تكون فلسطين قد أُخرجت من معادلة التطبيع، واستُبدلت الضغوط على إسرائيل لتقديم تنازلات حقيقية، بضغوط على الفلسطينيين لقبول الأمر الواقع.
وهنا يجب التمييز بين التطبيع كخيار سياسي تفاوضي، وهو أمر يمكن تفهمه ضمن شروط واضحة تحمي الحقوق العربية وتضمن للشعوب كرامتها، وبين “التطويع” الذي يحوّل العلاقة مع إسرائيل إلى نوع من التبعية، ويفرغ الدولة العربية من قدرتها على اتخاذ قرار مستقل.
التطبيع المقبول هو الذي يأتي بعد تحقيق العدالة، لا على حسابها. وهو الذي يُبنى على الندية، لا على الهيمنة. وهو الذي يحترم القضية الفلسطينية كقضية مركزية، لا كملف يجب إغلاقه بأسرع ما يمكن.
لا شك ان ما يحدث اليوم لا يُنذر بولادة شرق أوسط جديد يسوده السلام، بل بولادة نظام إقليمي يُدار من تل أبيب، ويُطلب من العواصم العربية أن تكون فيه توابع سياسية واقتصادية وأمنية.
“التطبيع” أصبح أداة لـ”التطويع”، والشراكة تحوّلت إلى تبعية، والحقوق الوطنية تتآكل باسم السلام.
وهنا السؤال المطروح على كل عاصمة عربية: هل هذا هو السلام الذي كنا نحلم به؟ أم استسلام ناعم يُفرض علينا تحت غطاء التعاون والانفتاح؟