بات العالم مضطرا إلى النظر بجدية نحو محيطاته، ليس باعتبارها مجرد خزان ضخم للحياة البحرية أو منظم لطقس الأرض عبر آلاف السنين، بل بوصفها حلاً محتملاً، وربما ضرورياً لمعضلة تغير المناخ التي تتفاقم سريعاً.
بحسب دراسة، جاءت ضمن تقرير جديد أصدرته مجموعة خبراء مكلفة من المجلس البحري الأوروبي، وتم مناقشتها أثناء مؤتمر الأطراف (COP 30) يمكن أن يكون إزالة ثاني أكسيد الكربون من المحيطات جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الوصول إلى درجات حرارة آمنة.
لكن الدراسة تحذّر في الوقت نفسه من أن العالم غير جاهز بعد لتوسيع نطاق هذه التقنيات قبل أن تتوفر قواعد صارمة وواضحة للمتابعة والتوثيق والتحقق.
وتشير الدراسة إلى أن تقنيات إزالة الكربون البحري، تعتمد على قدرة المحيطات الطبيعية على امتصاص الكربون، وهي قدرة ظلت عبر التاريخ العلمي مصدراً للدهشة؛ فالمحيطات تمتص نحو ربع الانبعاثات البشرية تقريباً. لكن السؤال الذي ظل يطارد الخبراء هو: هل يمكن تسريع هذه العملية بشكل آمن دون الإضرار بالأنظمة البحرية الهشة؟ الجواب وفق التقرير “ليس بعد”.
وتوضح الدراسة أن العالم يحتاج أولاً إلى منظومة عالمية قادرة على مراقبة هذه التقنيات، والإبلاغ عن نتائجها، والتحقق من أنها تعمل كما يفترض، دون آثار جانبية قد تجعل “الدواء أسوأ من المرض”.
ما علاقة المحيطات بامتصاص وتخزين ثاني أكسيد الكربون؟
ولا تزال هذه التقنيات في مراحل مبكرة، بعضها وُلد حديثاً والبعض الآخر لا يزال في مرحلة تجارب صغيرة النطاق مثل تلك التي تجرى حالياً في مشاريع مثل CDRmare الألماني.
وينفّذ المشروع التحالف الألماني لأبحاث البحار تحت اسم “أحواض الكربون البحرية في مسارات إزالة الكربون” والذي يُعد مهمة بحثية ضخمة يعمل فيها نحو 200 عالم ضمن ستة مشروعات تعاونية تستكشف سؤالاً محورياً: هل يمكن للمحيط أن يلعب دوراً رئيسياً وآمناً ومستداماً في امتصاص وتخزين ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي؟ وما الآثار المحتملة لهذا على البيئة البحرية، وعلى النظم الطبيعية، وعلى المجتمع؟
تقول الدراسة إن الكربون عنصر أساسي للحياة، وتوزيعه بين اليابسة والبحر والغلاف الجوي هو ما يرسم ملامح مناخ الأرض، فعندما يحتجز الكربون في باطن الأرض، أو في المحيطات، ويبقى جزء قليل منه في الهواء، تميل الأرض إلى البرودة. أما إذا ارتفعت كمياته في الغلاف الجوي، ترتفع الحرارة. وخلال 250 عاماً ضاعف الإنسان تركيزات ثاني أكسيد الكربون إلى مستويات لم يعرفها الكوكب منذ ملايين السنين ما تسبب في احترار عالمي متسارع.
أمام هذا الواقع، تبحث مهمة CDRmare عما إذا كان بالإمكان تعزيز الدور الطبيعي للمحيطات في امتصاص الكربون وتنظيم المناخ.
ومن بين أشهر هذه التجارب ما جرى في بحر الشمال بين فبراير وأبريل 2023، حيث استخدم العلماء 12 وحدة “ميزوكوزم” -أحواض بحرية مغلقة غاطسة في بيئة المحيط الطبيعية- بسعة 7 آلاف لتر وعمق 4 أمتار تقريباً؛ لدراسة تأثير زيادة قلوية مياه البحر على قدرة العوالق البحرية على امتصاص الكربون.
وظاهرياً قد تبدو هذه التجربة بسيطة، لكنها في الحقيقة محاولة لتقليد سيناريوهات عالمية ضخمة، قد يجد العالم نفسه مضطراً لتطبيقها في العقود المقبلة.
وفي تلك الدراسة تحديداً، ظهر الباحث كارستن سبسلا وهو يجمع عينات من هذه الأحواض، كجزء من جهود ترصد بدقة كيف تستجيب بيئات بحرية كاملة عند رفع قلوية المياه.
إمكانات هائلة للمحيطات
ويتفق العلماء تقريباً على أن الوقت ينفد، فمنذ تعهد العالم في باريس عام 2015 بالحد من ارتفاع الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية، اتضح أن المسار الفعلي يسير في اتجاه أكثر سخونة.
وفي كلمته أمام قمة القادة في (COP 30) قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إن تجاوز حد 1.5 درجة ولو مؤقتاً أصبح أمراً شبه حتمي بحلول أوائل ثلاثينيات هذا القرن، لكنه أكد أيضاً أن إبقاء هذا الحد “في متناول اليد” لا يزال ممكناً إذا تحرك العالم فوراً وبلا تأجيل.
ورغم حماسة البعض لإمكانات المحيطات الهائلة، يشير التقرير إلى أن الأولوية الكبرى الآن لا تزال واضحة، وهي خفض الانبعاثات. فكما يقول الباحثون: “لدينا بالفعل طرق فعّالة لخفض الانبعاثات، وهذا يجب أن يظل في مقدمة الأولويات”.
فالتخلص من الانبعاثات الناتجة عن الطاقة والكهرباء والنقل البري، رغم صعوبته السياسية والاقتصادية، أصبح ممكناً بفضل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المتاحة. لكن المشكلة فيما يسمى بـ”الانبعاثات المتبقية” أي تلك التي لا يمكن التخلص منها بسهولة، ولا سيما في قطاعات مثل الطيران والشحن وبعض الصناعات الثقيلة.
مخاوف كثيرة
ويذهب التقرير إلى ما هو أبعد من صافي الصفر، إذ يشير إلى أن الوصول إلى مستوى 1.5 درجة مئوية يتطلب الوصول إلى صافي سلبي، بمعنى إزالة كميات من الكربون تفوق ما يطلق. وهذا يعني أن البشرية قد تحتاج بحلول نهاية القرن إلى إزالة ما بين 5 إلى 10 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.
على اليابسة، بدأت بعض مشاريع إزالة الكربون بالفعل، مثل تشجير مساحات واسعة، أو التقنيات الصناعية التي تمتص الهواء عبر مراوح ضخمة وتخزن ثاني أكسيد الكربون في الصخور. لكن في البحر، ما زالت الطريق طويلة، والمخاوف كثيرة.
وتصنف التقنيات البحرية لامتصاص الكربون إلى فئات مختلفة، بعضها يشبه ما يحدث على اليابسة مثل تعزيز غابات المانجروف، أو حماية بيئات الأعشاب البحرية، وهي طرق تُعتبر “طبيعية” نسبياً.
ويقول الباحثون إن هناك طرقاً أخرى أكثر جرأة وتدخلاً، مثل تسميد المحيطات بالحديد لتحفيز نمو العوالق النباتية التي تقوم بامتصاص “شهي” للكربون، ثم تهبط بعد موتها إلى قاع المحيط حاملة معها جزءاً من هذا الكربون إلى الأعماق.
نظرياً يبدو الأمر مغرياً، لكن عملياً لا يعرف العلماء حتى الآن، كم من هذا الكربون يبقى فعلاً في الأعماق؟ ولأي مدة؟ وهل يؤدي التسميد المكثف إلى اضطرابات بيئية غير متوقعة؟
لكن المعارضين يقولون إن المحيط ليس حقلاً زراعياً مستقراً، بل نظام ديناميكي يتغير كل ساعة، فحتى لو نجحنا في دفع الكربون إلى الأعماق، فإن التيارات البحرية قد تعيده لاحقاً إلى السطح وإلى الهواء. وهنا تتعقد الحسابات ويصبح أي نظام اعتماد أو “رصيد كربوني” مثيرا للجدل.
ويقول التقرير إن الفكرة المثالية لأي مشروع لإزالة الكربون البحري يجب أن تشمل خمس خطوات واضحة، من ضمنها فهم الخلفية الطبيعية لمنطقة البحر المستهدفة، وتنفيذ المشروع، وحساب كمية الكربون التي أزيلت بدقة، وتقدير مدة بقائه معزولاً عن الغلاف الجوي، ثم رفع كل هذه المعلومات إلى جهة مستقلة تتحقق من صحتها.
لكن المشكلة، كما يقول الباحثون، إن عملية تخزين الكربون داخل البحر وليس في خزانات جيولوجية ثابتة يجعل من الصعب جداً إدارة العملية، فالمحيط لا يبقى في مكانه.
وتلفت الدراسة إلى أن بعض الشركات بدأت بالفعل تقديم “اعتمادات كربونية بحرية” رغم أن التقنيات ما تزال غير ناضجة.
ويحذّر الباحثون من أن أي اعتماد يتم من دون إجراءات تَحقق قوية سيقوّض ثقة المجتمع العلمي والجمهور، مؤكدين على أن النظم المخصصة لمنح الاعتمادات يجب أن تكون علمية وشفافة ويمكن التحقق منها بدقة، وإلا ستتكرر أخطاء أسواق الكربون السابقة التي اتُهمت بالمبالغة والوهم.
ويقول الباحثون إن التقارير العلمية بشأن هذه المشاريع يجب أن تتضمن أيضاً أي آثار جانبية محتملة، وتجيب عن أسئلة من ضمنها هل تضر الحياة البحرية؟ وهل تغيّر كيمياء المياه؟ وهل تسبب نقصاً في الأوكسجين؟ فالتاريخ البيئي يمتلئ بمحاولات “حسنة النية” انتهت بنتائج كارثية؛ لأن أحداً لم يتوقع الآثار المتسلسلة.
ورغم كل هذه التعقيدات، فإن التقرير لا يدعو إلى التخلي عن هذه التقنيات، بل إلى تنظيمها قبل أن يصبح استخدامها واسعاً. فمن ناحية، لا يوجد سيناريو واقعي لتحقيق أهداف المناخ الكبرى دون إزالة كربون واسعة النطاق. ومن ناحية أخرى، لا توجد حتى الآن إجابات وافية بشأن سلامة وجدوى التقنيات البحرية مقارنة بالبرية، وهو ما يجعلها “ضرورة محتملة، لكنها محفوفة بالألغاز.
وينبّه الباحثون إلى أن بعض الناس يتعاملون مع المحيط بوصفه “حلاً سحرياً” أو “المخرج الكبير من أزمة المناخ”، لكن هذا الأمل غير واقعي حالياً. فالطرق البحرية ما تزال أولية، وبعضها نظري، والبعض الآخر يفتقر لأي تجربة عملية واسعة، كما يحمل البعض مخاطر غير معروفة.
ويختتم التقرير بالتأكيد على أن تجاهل هذه التقنيات ليس خياراً، كما أن تبنيهاً بلا ضوابط ليس خياراً أيضاً، فالمستقبل سيحتاج إلى إزالة كربون واسعة النطاق، لكن أي خطوة نحو البحر يجب أن تُبنى على أسس علمية محكمة، ومعايير مراقبة صلبة، وشفافية كاملة، وإطار دولي متفق عليه. وحتى يتحقق ذلك، يبقى المحيط برغم اتساعه مكاناً لا يحتمل المغامرة غير المحسوبة.

