
كتب د. أحمد يوسف أحمد, في الاتحاد:
عرض المقال الماضي لوثيقة ترامب للأمن القومي، وبالذات أولوياتها من منظور أقاليم العالم، وكيف تبدلت بحيث جاء الشرق الأوسط في المرتبة قبل الأخيرة بعد أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا، بحيث لا يسبق في الأهمية سوى أفريقيا. وقد استند محللون إلى هذا الترتيب للاستنتاج بأن مكانة الشرق الأوسط قد تراجعت في أولويات السياسة الخارجية الأميركية
ويناقش مقال اليوم هذا الاستنتاج ليس لتفنيده، ولكن لمناقشة مضمونه المحدد، لأنه قد يُعطي انطباعاً بأن الشرق الأوسط لم يعد مهماً للسياسة الخارجية الأميركية، وهو انطباع أبعد ما يكون عن الواقع في تقديري. وليتصور القارئ الكريم معي كيف يتصدى رئيس الولايات المتحدة في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تسوية النزاعات الدولية لرئاسة ما يُسمى «مجلس السلام في غزة» الذي يُفْتَرَض أن يضم عدداً من رؤساء الدول، والذي سيكون مسؤولاً عن تنفيذ قرار مجلس الأمن 2803 الخاص بتسوية الأوضاع في غزة ما لم تكن هذه التسوية تمثل أولويةً مهمة للسياسة الأميركية، سواء كان ذلك بسبب رغبة ترامب في أن يصبح صانع السلام العالمي الذي تغلب على كل العقبات التي اعترضت تسوية الصراع العربي الإسرائيلي لعقود، أو بسبب استمرار الالتزام الأميركي بصون الأمن الإسرائيلي، حيث بدا في غير موقف، وكأن ترامب يعتقد بأن إسرائيل غير قادرة على إنجاز هذه المهمة بنفسها.
وهذا علماً بأنه أياً كانت الاختلافات الثانوية التي تظهر على السطح من حين لآخر بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن هذه الاختلافات لا تهز المكانةَ التي تحتلها الدولة العبرية من المنظور الاستراتيجي الأميركي.
وبعيداً عن إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي، لا يجب أن ننسى أن الشرق الأوسط يستحوذ وحده، حسب أرقام عام 2024، على قرابة نصف صادرات السلاح الأميركية للعالم (43٪). كما أن الميزان التجاري الأميركي مع بلدان الإقليم ينطوي على فائض تجاري بأرقام نفس السنة بحوالي 20 مليار دولار، ناهيك عن أن الشركات الأميركية، كما هو معلوم، شريك استراتيجي وتقني مهم في صناعة النفط بالشرق الأوسط.. فعن أي تراجع في الأهمية يتحدثون؟
وفي الإجابة عن ذلك السؤال، أعتقد أن التفرقة واجبة بين ترتيب الأولويات ودرجة الاهتمام، فأن يأتي الشرق الأوسط في الترتيب الرابع على خمسة أقاليم، لا يعني بالضرورة أن درجة الاهتمام به محدودة، وقد يكون الأدق القول بأن صانع القرار الأميركي لا يشعر حالياً بتهديد جسيم لمصالحه في ضوء التطورات التي حدثت، خلال السنتين الأخيرتين، والتي أفضت منذ الربع الأخير من عام 2024 إلى تغيير في ميزان القوى في المنطقة لصالح إسرائيل التي تصطف الولايات المتحدة معها، بعد الضربات الموجعة التي وُجهَت لـ«حزب الله» اللبناني وإسقاط النظام السوري السابق، والضربة العسكرية التي وجهتها إسرائيل لإيران في يونيو الماضي، والتي شاركت الولايات المتحدة في مرحلتها الأخيرة بضرب مفاعل فوردو النووي.
كما أن التطور الإيجابي في العلاقات الأميركية بالسلطات السورية الحالية يمكن أن يزيد من الشعور بتراجع التهديدات للمصالح الأميركية في المنطقة، خاصة في ضوء العلاقات الجيدة التي تربط الولايات المتحدة بمعظم الدول العربية الوازنة. وأي تغير في عناصر هذه المعادلة سوف يحدث تغييراً دون شك، وبالتالي فعلى مَن يتوقعون انحسار الاهتمام الأميركي بالمنطقة أن يراجعوا حساباتهم في هذا الصدد.

