شهدت مدينة طنجة المغربية، اختتام فعاليات الدورة 19 من مهرجان “ثويزا”، الأحد، الذي نظمته جمعية ثويزا تحت شعار “نحو الغد الذي يُسمّى الإنسان”، وهو العنوان الذي اختاره الشاعر أدونيس، ليكون محوراً فلسفياً وفنياً، يفتح النقاش حول مصير الإنسان، وقيم الحكمة والجمال، في زمن تهدّده مظاهر التفاهة.
ركز المهرجان على تثمين التعدّد الثقافي في المغرب، وتعزيز إشعاع الثقافة الأمازيغية، وإبراز إبداع الكاتب محمد شكري، فضلاً عن دعم النشاط الثقافي في شمال المغرب.
“ثويزا” أو التضامن
منذ تأسيسه عام 2005، تحت اسم المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية، قبل أن يُعتمد اسمه الحالي سنة 2007، حقّق المهرجان إشعاعاً ثقافياً واسعاً.
يرمز الاسم إلى كلمة أمازيغية تعني “التعاون الجماعي التطوعي”، وهو تقليد اجتماعي قديم، يقوم على تكاتف الأفراد لإنجاز عمل مشترك بروح من التضامن.
يقول المدير العام للمهرجان عزيز وروذ: “ما يميّز مهرجان ثويزا، لا يقتصر فقط على غنى فعالياته، بل يتجلى في قناعته الراسخة بأن الثقافة ليست ترفاً، بل حاجة مجتمعية، وأن الهوية الأمازيغية، بما تحمله من قيم الانفتاح وعمق حضاري، تشكّل رافعة أساسية للتنوير والتجديد، ومساحة للأمل في زمن تتراكم فيه ظلال القلق واللامعنى”.
فعاليات الدورة 19
تميّزت هذه الدورة ببرمجة غنية تسعى إلى مقاومة ما وصفته الأرضية الفكرية للمهرجان بـ “المدّ المكتسح من الابتذال واللامعنى”.
وشهد المهرجان ندوات عدّة أبرزها ملتقى “جرأة البوح في سيرة الهامش”: احتفاء بإرث محمد شكري عبر قراءات، شارك فيها كل من الروائية ربيعة ريحان، والشاعرة إكرام عبدي، والشاعر إدريس علوش، و المترجم مصطفى أقلعي، أداره الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحيى.
كذلك عقدت ندوة “التفكير في اللامعنى”: ناقشت ظاهرة اللامعنى والتسطيح الفكري بمشاركة الباحث السوسيولوجي التونسي الطاهر لبيب، تقديم الكاتب المغربي يحيى بن الوليد.
ودارت ندوة “في الحاجة إلى كفاءات مغاربة العالم”: حول تجارب المهجر ودورها في التنمية الوطنية، بحضور شخصيات مثل أحمد أبو طالب وفؤاد أحيدار، والكاتب عبد القادر بنعلي.
وعقدت ندوة عن “حدود إعمال النظر العقلي في فهم وتأويل التراث”: بمشاركة محمد المصباحي ويوسف الصديق. كما شهد ملتقى “التجارب الأدبية الجديدة”، حواراً مع الروائي العراقي صموئيل شمعون و 8 من الكُتّاب الشباب، بإدارة الشاعر مخلص الصغير.
واختتم بندوة “الإنسان هو الحل” بمشاركة المفكّر التونسي الطاهر لبيب، ويوسف الصدّيق، وأحمد عصيد، ناقشت إمكانية أن يكون الإنسان حلاً للأزمات التي صنعها.
حضور أدونيس رغم غيابه
وعلى الرغم من اعتذار الشاعر أدونيس عن الحضور لأسباب قاهرة، كان حضوره الإبداعي بارزاً من خلال توزيع ديوانه الشعري الجديد “دفتر مقابسات في أحوال طنجة ومقاماتها” الصادر باللغتين العربية والإسبانية، المخصص لمدينة طنجة وشواهدها الثقافية والعمرانية، مثل باب “العصا” و”باب البحر”.
افتُتح معرض فني يضم مختارات من قصائد الديوان، مرفقة برسومات الفنان المغربي السكاكي، في حوار جمالي جمع الشعر والفن التشكيلي. كما وثّق الاستديو البصري الذي تأسس خصيصاً للمهرجان، ذاكرة المشاركين فيه منذ دورته الأولى عام2005، وصولاً إلى هذه الدورة التاسعة عشرة، في سردية بصرية لمسار المهرجان وتأثيره الثقافي.
جرأة البوح في سيرة الهامش
احتفى الملتقى بأدب الكاتب محمد شكري، بسيرة الهامش التي فجّرت إبداعاً روائياً تجاوز حدود المغرب، ليصبح ظاهرة أدبية عالمية. ناقش المشاركون جرأة البوح التي ميّزت نصوص شكري، وصدقه في التعبير عن المهمشين وأسئلتهم الوجودية.
أدار اللقاء الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحيى، بمشاركة ربيعة ريحان، وإكرام عبدي، وإدريس علوش، ومصطفى أقلعي. استعرضت المداخلات جماليات أسلوب شكري وقدرته على تحويل المعاناة الفردية إلى نصوص كونية التأثير. تحدث الجميع عن ذكرياتهم الشخصية مع الكاتب محمد شكري، مؤكّدين أثره العميق في مسارهم الثقافي.
التفكير في اللامعنى
في محاضرته تناول السوسيولوجي الطاهر لبيب، مفهوم اللامعنى باعتباره ظاهرة تتجاوز حقل اللسانيات إلى بُعد سوسيولوجي وثقافي.
وأشار إلى أن “الفكر الفلسفي والسيميائي وصولاً إلى فرويد، افترض أن لكل شيء معنى، حتى زلات اللسان، لكن العصر الراهن يشهد انفصالاً وتداخلاً بين المعنى واللامعنى، يستدعي آليات معرفية جديدة، قد تؤسس لـ “علم خاص باللامعنى”، مقترحاً إلى جانبه مفهوم”العبثية”.
واعتبر لبيب “أن الشارع في عنفه ووضاعته، فضاء بلاغي يختزن دلالات، تحتاج إلى تفكيك مثلها مثل المعنى المؤسسي”. وانتقد “إعلام التكرار الذي يعيد تدوير الحسّ المشترك الخام، نحو تسطيح الفكر والفعل”، رابطاً “انتشار اللامعنى بحاجة السوق النيوليبرالية إلى خطابات سهلة التسويق، ما أدى إلى تفريغ الوعي الجمعي”.
وفي السياق العربي، رأى لبيب أن “هذا اللامعنى يعكس أزمة تذكّر بمسرحية “في انتظار غودو”، بينما شكّلت غزة الاختبار الأقصى للمعنى العربي، إذ عرّت القناع العربي، وأسقطت شعاراته الأخلاقية والسياسية”. وقال: “أُكلنا يوم أُكل المعنى في غزة”.
أضاف: “يقول العرب المعنى هو في محنته وما يصير إليه، لكن المعنى الحقيقي لا يُختبر إلا حين يواجه محنته، وما يؤول إليه يكشف قيمته أو سقوطه، وهكذا فالمعنى متحوّل”.
فهم وتأويل التراث
ناقش هذا المحور حدود توظيف النظر العقلي في فهم وتأويل التراث الإسلامي، بوصفه ثروة روحية وثقافية غنية ومتنوّعة، تتطلب جهداً فكرياً خاصاً للكشف عن مضامينها المغلقة.
وطرح هذا المحور السؤال الفلسفي حول مدى مشروعية إعمال العقل والوجدان، دون قيود في التعامل مع النصوص التراثية. وأبرز الحوار الذي أداره محمد جبرون مع مفكرين بارزين، مثل محمد المصباحي، الممثل لتيار الرشدية المعاصرة، ويوسف الصدّيق، الداعي إلى تحكيم العقل، إلى أهمية الموازنة بين وفاء النص التراثي، وضرورات القراءة العقلية الحديثة.
كفاءات مغاربة العالم
تناول الملتقى أيضاً، أهمية كفاءات مغاربة العالم باعتبارهم رافعة للتنمية، وداعماً لمسارات الابتكار وبناء جسور التعاون الدولي، تزامناً مع عودة الجالية لقضاء العطلة بالمغرب، حيث تحدثت شخصيات مغربية بارزة حققت نجاحات لافتة في بلدان الإقامة وحافظت على ارتباطها ببلدها الأصلي، من بينهم عمدة مدينة روترام أحمد أبو طالب.
التجارب الأدبية الجديدة
تحدّث الشاعر والإعلامي المغربي مخلص الصغير ضمن المنصّة الأدبية، عن مكانة الكاتب العراقي صموئيل شمعون، مؤلف رواية “عراقي متشرد في باريس”، ومحرر أدبي يحمل همّ الترجمة والانفتاح الثقافي، ومدير موقع “كيكا” الذي جعله منصّة حرّة للتعبير، ومؤسس مشارك لمجلة “بانيبال” التي عرّفت بالأدب العربي عالمياً.
وكان اللقاء مناسبة لفتح حوار مع شمعون، الذي تحدث عن دلالة اسمه الذي “جَرّ عليه الويلات”، مشيراً إلى أن اسم موقعه الثقافي “كيكا” يعود إلى الاسم الذي كان يُطلق على والده الأصم والأبكم، ليجعله رمزاً مفتوحاً للتسامح وفضاء لكل الأصوات.
ونوّه إلى أن مشروع ترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية الذي أنجزته مجلته “بانيبال”، التي يُصدرها مع زوجته مارغريت أوبانك، كان قائماً على إمكاناته الشخصية، ورغبته في أن يجد الأدب العربي صوته العالمي المستحق.
كما استعاد شغفه القديم بالسينما، التي ظلّ يحلم بها منذ شبابه، لكنه – كما اعترف – لم يبلغ فيها ما أراد، لتبقى بالنسبة له ذكرى حلم مؤجل.
عقب ذلك، دار حوار مفتوح مع الكُتّاب الشباب الحاضرين، تبادل فيه الرؤى حول مسارات الإبداع ونشر الأصوات الجديدة.
طنجة مركز الاهتمام
يُمثّل المهرجان رافعة اقتصادية وثقافية لمدينة طنجة، إذ ينعش السياحة والصناعات التقليدية، ما يجعل المدينة في مركز الاهتمام.
وفي هذا السياق، نظّم اتحاد الناشرين المغاربة معرضاً للكتاب بساحة “الأمم”، ضمن فعاليات المهرجان، ليقدم فضاء مفتوحاً للكتب والإصدارات الجديدة، ويدعم صناعة النشر، ويعزّز مكانة القراءة، كركيزة أساسية في المشهد الثقافي المغربي.
تاريخ المهرجان
على امتداد 19دورة، احتضن المهرجان 146 فعالية (ندوات، محاضرات، ملتقيات، لقاءات مفتوحة)، وشارك فيه 1007 مفكّراً ومؤرخاً، وناقداً، وغيرهم من الحقوقيين والإعلاميين، و111 فرقة موسيقية، كما وصل عدد المشاركين إلى 3842 فناناً ومثقفاً، ما جعله فضاءً للحوار والاختلاف والإبداع، ومبادرة ثقافية تتجاوز كونها تظاهرة فنية، نحو استشراف “الغد الذي يُسمّى الإنسان”.