كتب رفيق خوري في صحيفة إندبندنت عربية.
مؤتمر حل الدولتين في رحاب الأمم المتحدة برئاسة سعودية-فرنسية مشتركة بدا أكثر من حراك سياسي تخدمه دبلوماسية على الأصول. وليس أهم من عقده سوى الظروف وحسابات القوى التي أنضجت العقد. بعض مخرجاته “بيان تاريخي غير مسبوق” في رأي وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو وزميله وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان. وبعض تحدياته في المرحلة التي تكمله على مستوى القادة في دورة الخريف في الأمم المتحدة ضرورة الانتقال من بيان تاريخي إلى فعل يصنع التاريخ. فالساعة لا تزال تدق لحل الدولتين منذ قرار التقسيم عام 1947 الذي أعطى الدولة الفلسطينية 44 في المئة من مساحة فلسطين، فرفضه العرب، وقبله بن غوريون الذي قال كما يروي المؤرخ توم سيغيف في كتاب “بن غوريون” إن “امتلاك دولة أهم من حدودها، لأن الحدود ليست ثابتة”.
وما ضاع على العرب في الرفض هو الزمن والجغرافيا قبل العودة إلى المطالبة بحل الدولتين من دون القدرة على المجيء به وعلى أقل من 28 في المئة من مساحة فلسطين وبعد تضحيات وخسائر فلسطينية وعربية هائلة. والمألوف في مؤتمرات القمة العربية وسواها مثل مؤتمر نيويورك هو العودة إلى الماضي بعد تغيير ظروفه. العودة إلى ما كان قبل قرار التقسيم وما لم يكن بعده. العودة إلى ما فشل العرب والعالم في دفع إسرائيل إلى قبوله، وهو المبادرة العربية للسلام الشامل التي خرجت من القمة العربية في بيروت عام 2002، وكانت مشروعاً طرحه ولي العهد السعودي في وقتها الأمير ثم الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود.
وما عرضه العرب مقابل استعادة الأرض في الضفة وغزة والقدس الشرقية والجولان وقيام دولة فلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هو سلام كامل مع اعتراف بإسرائيل وعلاقات دبلوماسية واقتصادية. وما يطالب به مؤتمر نيويورك هو سلام شامل سوري-إسرائيلي، ولبناني-إسرائيلي، وفلسطيني-إسرائيلي مع اعتراف دبلوماسي وتطبيع كامل وتسليم من الرئيس محمود عباس في رسالة التاسع من يونيو (حزيران) الماضي بأن الدولة “لن تكون دولة مسلحة” أي منزوعة السلاح عملياً. لا بل تضمنت المخرجات العمل على “تكامل إقليمي”.
واللامألوف كان اعتراف بريطانيا بما ارتكبته من أفعال منذ عام 1917 بلسان وزير الخارجية ديفيد لامي الذي أبلغ المؤتمرين بأن “تاريخنا يعني أن بريطانيا تحمل عبئاً خاصاً من المسؤولية لدعم حل الدولتين”. وهو في الإشارة إلى وعد بلفور لم ينتقده، ولا أعلن الندم على صدوره أو التراجع عنه، ولا تحدث عن خطأ فعله الوزير آرثر بلفور، بل اعترف بواحد من أهم مفاعيله وهو ترتيب الأجواء لقيام دولة إسرائيل.
أما انتقاده فإنه للسياسة البريطانية التي لم تنفذ ما ورد في نص الوعد من ضمانات لمواطني فلسطين بعدم المساس بحقوقهم وأوضاعهم وطموحاتهم. حتى مؤتمر نيويورك، فإنه تجاهل الاعتراضات العربية التقليدية على وعد بلفور وقرار التقسيم، لأن أساس حل الدولتين هو قبول الدولة العبرية مقابل الدولة العربية، بالتالي البناء على ما أهمله الوعد وما بقي من قرار التقسيم.
ومن المهم أن يعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر نية الاعتراف بالدولة الفلسطينية في دورة الخريف في الأمم المتحدة على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن الأهم والمطلوب من بريطانيا أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية وتعمل بجد مع الدول العربية وبقية الدول الأوروبية على تحقيق ما يمكن أن يسمى “وعد نيويورك” حول الدولة الفلسطينية. ولا بد من مواجهة الرفض الإسرائيلي والأميركي لقيام دولة فلسطينية، بحجة مضحكة أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية “هدية لـ’حماس‘”، في حين أن “حماس” ضد الدولة لأنها تريد بكل فلسطين من البحر إلى النهر.
ذلك أن “أمر اليوم” في العالم العربي والعالم هو وقف حرب غزة والعمل على إنجاز تسوية لقيام دولة فلسطينية وإغلاق الملف الفلسطيني المفتوح على الحروب والأزمات في المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى. والأهم من وقف الحرب هو ربطه بتصور واضح لليوم التالي بعد غموض مقصود أو ارتباك إسرائيلي وأميركي. وجوهر التصور هو تسليم “حماس” سلاحها وحكمها في غزة للسلطة الفلسطينية، ونشر “بعثة دولية موقتة” بناءً على دعوة من السلطة تحت رعاية الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار والحماية للسكان المدنيين.
لكن التحديات كبيرة أمام الفلسطينيين والعرب والعالم. فلا الدعم الدولي كان يكفي لقيام إسرائيل من دون عمل يهودي منظم وعلى مراحل ومدى طويل مالياً وسياسياً وعسكرياً. ولا الدعم المتجدد للدولة الفلسطينية عبر الاعتراف بها ودعمها يكفي من دون جهد فلسطيني منظم في إطار وحدة وطنية. ولا مهرب من الاعتراف بفشل مغامرة “حماس” لتحرير فلسطين بالقوة العسكرية، وفشل المساعي السياسية لضمان تسوية شاملة، وفشل “اتفاق أوسلو” في الانتقال إلى إقامة دولة خلال خمسة أعوام حسب الاتفاق. والمطلوب من رعاة مؤتمر نيويورك هو إيجاد مسار مختلف للوصول إلى حل الدولتين، مسار من الضغوط الجدية وصولاً إلى عزل إسرائيل الرافضة وتحدي أميركا الداعمة للرفض وصولاً إلى تحقيق “وعد نيويورك”.
يقول المؤرخ الأميركي اليهودي طوني جوت الذي عمل في كيبوتس وتطوع في جيش إسرائيل عام 1967 “إن إسرائيل مغالطة تاريخية، دولة من قرن مضى”. والسؤال هو، إلى أين ومتى تهرب إسرائيل من ملايين الفلسطينيين أصحاب الأرض؟ والكل يعرف أن مستقبل إسرائيل مرتبط بحل الدولتين والسلام الشامل في الشرق الأوسط، لا بالتكنولوجيا والدعم الأميركي.