مع التحوّلات الثقافية التي تشهدها السعودية ضمن “رؤية 2030″، برز المعهد الملكي للفنون التقليدية “ورث” كمؤسسة رائدة، تحمل على عاتقها مهمّة إحياء الفنون التقليدية، وتوثيق تواريخها، والعمل على تطويرها، لإعادتها إلى واجهة الاهتمام في المجتمع السعودي.
الهوية البصرية في كلمة “ورث”، تجسّد التزاماً عميقاً بمهمة الحفاظ على الفنون التقليدية، إذ تم استلهام الشعار من رموز أصيلة، تمثّل جوهر هذه الفنون، وتعكس قيمه، ابتداء من نقوش فن السدو، أحد أبرز الحِرف اليدوية في المملكة، إلى الربابة الآلة الموسيقية التقليدية، التي ارتبطت بالفنون الأدائية، كما يظهر نقش الزهرة المستخدم في العمارة والأزياء السعودية، في إشارة إلى وحدة النسيج الثقافي والاجتماعي السعودي.
تجتمع تلك العناصر داخل ختم المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، تتوسطه مفردة ورث المكتوبة بخط الثلث، محاطة بالعقال المقصّب، ملبس الملوك والأمراء والأعيان، كما جاء في موسوعة الثقافة التقليدية في السعودية، في إلماحة خفية لعلو شأن قطاع الفنون التقليدية في المملكة.
فرص وظيفية
لا يكتفي “ورث” بدوره المحوري في الحفاظ على الفنون التقليدية السعودية وتطويرها، بل يقوم بدوره كرافد اقتصادي، لا سيما في ظل تطلعات المملكة لاستقبال 150 مليون زائر بحلول عام 2030.
يبرز قطاع الحرف اليدوية كفرصة استثمارية متنامية، مع تقديرات تشير إلى بلوغ حجم السوق نحو 1.33 مليار دولار بحلول عام 2028، وفقاً لبيانات شركة الحِرف السعودية التابعة لهيئة التراث. يسهم ذلك في إيجاد نحو 9 آلاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، من خلال دعم الحِرفيين وتمكينهم عبر بيئة تعليمية متخصصة، وإطلاق حاضنات ومسرعات الأعمال، وتقديم البرامج التدريبية والاستشارية المتخصّصة.
إعداد الكوادر
يحظى إعداد الكوادر والتدريب بأولوية كبيرة ضمن استراتيجية “ورث”، وذلك عبر ثلاثة مسارات تدريبية وتعليمية متنوّعة، وهي برامج التعليم المستمر، والتلمذة، والبرامج الأكاديمية.
واستناداً لتقرير منشآت الصادر بالتزامن مع إعلان سنة 2025 عاماً للحرف اليدوية، يوجد أكثر من 4900 حرفي مسجّل في قاعدة البيانات الوطنية، لمزاولة ما يزيد على 50 حرفة يدوية بمختلف مناطق المملكة، من بينهم نحو 850 حرفياً استفادوا من برامج الدعم والتدريب.
التعليم المستمر
يقدّم برنامج التعليم المستمر دورات قصيرة لأيام، وبرامج تخصّصية لا تتجاوز مدتها الشهر، إضافة إلى برامج التطوير المهني، والمقررات الأكاديمية المفتوحة المتاحة للجميع.
فيما تقوم برامج التلمذة على التدريب المنتظم، كي يكتسب المتدرّب المعارف والمهارات والقيم اللازمة لممارسة الحرفة، وتتألف من 3 مستويات، المبتدئ ويركز على تعلم الحرفة بشكلها التقليدي الأصيل، يليه المستوى المتوسط، ويركز على المهارات الحرفية الأعلى تعقيداً، وتتراوح المدة بين تسعة أشهر وسنتين.
أما المستوى المتقدّم، فينصب تركيزه على التمكين الريادي والمهني للحرفة، بما يتضمن تنمية المهارات التجارية والمهنية، والتمكين من إدارة الحرفة تمهيداً للدخول إلى سوق العمل.
البرامج الأكاديمية
إلى جانب التدريب، يقدّم “ورث” وللمرّة الأولى في السعودية، برنامجاً أكاديمياً يجمع بين الجانب النظري والتطبيق العملي، وفق منهجيات حديثة تتوافق مع السياق المحلي والعالمي، بالشراكة مع من جامعات وأكاديميات عالمية رائدة في مجالات الفنون والتصميم، من بينها جامعة “بوليتكنيكو دي ميلانو” الإيطالية، المصنّفة ضمن أفضل 10 جامعات عالمياً في التصميم والعمارة.
يشتمل البرنامج على 6 تخصّصات أكاديمية، 4 منها في درجة الماجستير في تصميم الأثاث التقليدي، وماجستير تصميم أزياء الفنون الأدائية، وماجستير التجهيز الفني للمتاحف والمعارض، إضافة إلى ماجستير التراث الرقمي، وبرنامجين آخرين، هما الدبلوم العالي في تطوير المنتجات التقليدية، والدبلوم المتوسط في تصميم الأداء الحركي.
حضور لافت
أحد الأدوار الجوهرية التي يلعبها معهد “ورث”، هو التعريف بالفنون التقليدية والترويج لها، عبر المحافل المحلية والدولية، وتقديمها بحلة جديدة تتسق مع المتغيّرات العالمية، لا سيما أن المملكة تحتفي بعام الحرف اليدوية 2025.
كما يحدث في بطولة العالم للرياضات الإلكترونية 2025 (EWC) في العاصمة الرياض، بمشاركة أكثر من 100 دولة، حيث قدّم “ورث” نموذجاً فريداً للتعريف بالفنون التقليدية السعودية عبر وسائط رقمية مبتكرة، في جناح تفاعلي مزج بين الألعاب الرقمية والفنون التقليدية، عكست الهوية الثقافية السعودية بلغة العصر.
كذلك مبادرة “ورث السعودية” التي أطلقها المعهد بالتعاون مع الهيئة العامة للطرق، بهدف تعريف المسافرين بالفنون التقليدية، عبر لوحات كبيرة موزعة على الطرقات السريعة بمختلف مناطق المملكة، قبل أن تستقبلهم مداخل المدن بنماذج لتلك الفنون التقليدية، كصناعة الأبواب النجدية، والبناء بالطين، والزخارف الخشبية المعروفة بالمنجور، وحياكة البشت، لتكون بمثابة مقدّمة بصرية للهوية الثقافية قبل الوصول إلى وجهتهم.
الفن بوصفه سفيراً
كما أطلقت حملة “ورث مملكتين” بالتعاون مع المملكة المتحدة، في خطوة تعكس طموحة تهدف لتصدير الهوية السعودية للعالم. يضاف لكل ما سبق، الهدايا التذكارية للحجاج، من الطرزات القماشية والسجاد بتصاميمه، مستلهمة من الفنون التقليدية السعودية، لتصبح سفيرة لها لكل الدول.
كل ما سبق من مبادرات لم تكن مجرد محاولات ارتجالية، بل كانت جزءاً من استراتيجية متكاملة لإحياء الفنون التقليدية السعودية، والمحافظة عليها وتطويرها، وتعزيز حضورها محلياً وعالمياً، بما يواكب تطلعات المملكة نحو اقتصاد إبداعي مستدام، ينهل من التراث ويخاطب المستقبل.