أتت رياح الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بما تشتهيه سُفن البرازيل، فمنذ فرضت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب حزمة من التعريفات الجمركية على الصين، تحولت أميركا اللاتينية، وتحديداً البرازيل، إلى المستفيد الأكبر من صراع القوتين الاقتصاديتين، خاصة في صادرات فول الصويا، أحد أهم السلع الزراعية في العالم.
في عام 2024، استوردت الصين 105.03 مليون طن من فول الصويا، جاءت 71.1% منها من البرازيل و22% من الولايات المتحدة، بينما حصلت الأرجنتين على 3.9% (4.1 ملايين طن) وأوروجواي على 1.9% (2.02 مليون طن).
لكن بحلول مايو 2025، توقفت الصين تماماً عن شراء فول الصويا الأميركي، واستبدلته بالكامل بشحنات من البرازيل وأحياناً من الأرجنتين.
قفزة نوعية في صادرات البرازيل
بحسب وزارة الزراعة البرازيلية، كان الرقم القياسي السابق للبرازيل في شحنات البذور الزيتية، من أكبر منتج ومصدر في العالم، قد تم تسجيله في عام 2023 بواقع 101.3 مليون طن.
وفي هذا العام، حصدت البرازيل أيضاً محصولاً قياسياً تجاوز 170 مليون طن، وفق التقديرات الأولية صدّرت منها 120 مليون طن، متجاوزة صادرات عام 2023، واللافت في صادرات العام الحالي أن قرابة 85% منها ذهبت باتجاه الصين.
فمنذ يوليو، بدأت الصادرات البرازيلية إلى الصين تقفز بوتيرة غير مسبوقة، وقال رئيس نقابة مصدّري الصويا في الريف البرازيلي نيستور أوليفيرا في مقابلة مع “الشرق”: “سجلت الصادرات المتجهة للصين أرقاماً لافتة، في يوليو صدّرنا 9.6 مليون طن بزيادة 7.4% مقارنة بعام 2024، وفي أغسطس كان الرقم 7.9 مليون طن بزيادة 33.9%، أما في شهر سبتمبر فبلغ 6.8 مليون طن كأعلى زيادة بـ57.1% عن العام السابق، وفي سبتمبر وحده، ذهب 92.3% من إجمالي صادرات فول الصويا البرازيلي إلى الصين، وهذه الأرقام جعلت من البرازيل المورد الأول بلا منازع”.
ويكمل أوليفيرا: “هذه الأرقام القياسية سبقها تعاون مشترك بين الحكومتين، بالإضافة إلى ضخ استثمارات صينية ضخمة سواء في البنى التحتية مثل مشروع ميناء سانتوس الذي تديره شركة COFCO، أو من خلال تمويل الأبحاث الوراثية وبرامج زيادة إنتاج فول الصويا التي تحصل في مراكز الأبحاث المحلية، ويتم تبادل المعلومات مع الجهات الصينية”.
التخطيط الاستراتيجي والتكنولوجيا
بحسب منتجي فول الصويا المحليين، جاءت الزيادة المسجلة في الإنتاج خلال 2025 نتيجة قرارات اتُّخذت مبكراً هذا العام.
فبحسب تقرير “كوناب” 2025-2026 الذي تُصدره وزارة الزراعة البرازيلية، وسع منتجو فول الصويا المساحة المزروعة، وجعلوها تصل إلى نحو 49.1 مليون هكتار، أي تقريباً بمساحة دولة بحجم السويد، محققة زيادة بـ3.6% عن الموسم السابق.
وحول هذه الخطة يقول منتج فول الصويا وصاحب شركة “فراتيلي” لإنتاج الحبوب سيلفيو مالوتا لـ”الشرق”: “لم يكن هذا القرار عشوائياً، فوزارة الزراعة ومؤسسة كوناب البحثية رصدتا منذ 2024 ارتفاع الطلب الخارجي، خصوصاً من الصين والاتحاد الأوروبي وصناعة البروتين في آسيا، وتم إعلامنا بذلك، فتوجّهنا إلى توزيع زراعتنا على مناطق ذات تقاويم زراعية مختلفة في الوسط-الغربي والجنوب والشمال، لتقليل مخاطر المناخ وتسريع تدفّق الحبوب إلى الموانئ خلال فترات أطول ضمن العام، وبالتوازي، اعتمدنا على الزراعة الدقيقة، والطائرات المسيّرة، والمنصات الرقمية لرصد الآفات والرطوبة، بهدف دعم التصدير في ذروة الطلب”.
وأوضح: “حققنا خلال العام 2025 زيادة إنتاجية بقرابة 15% عن العام الماضي، وكان هذا أمراً جيداً بالنسبة لنا”.
النينيو والنينيا
ورغم المكاسب الهائلة للبرازيل من هذا الصراع وتصديرها ما قيمته قرابة 34 مليار دولار من فول الصويا وحده إلى الصين، إلا أن التحديات لا تقل حجماً عن الفوائد؛ فالبرازيل تواجه ضغوطاً داخلية بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج والأسمدة والمبيدات والشحن، إضافة إلى ضعف قدرات التخزين وارتفاع أسعار الفائدة.
كما أن ظواهر مناخية مثل “النينيو” و”النينيا” تهدد موسم 2025/2026، مع احتمالات جفاف في ريو جراندي دو سول وسانتا كاتارينا، وهما من أهم مناطق الزراعة، بالإضافة إلى انتشار أخبار حول إمكانية عقد اتفاق تجاري جديد بين الصين والولايات المتحدة، على ضوئه ستقوم الصين بالعودة لشراء الصويا الأميركية.
وظاهرة النينيو هي اضطراب مناخي طبيعي يحدث في المحيط الهادئ الاستوائي، يؤدي إلى تغيّرات كبيرة في الطقس حول العالم، مثل الفيضانات والجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
وتحدث عندما ترتفع درجات حرارة سطح المحيط الهادئ الاستوائي الشرقي بشكل غير طبيعي، خاصة قرب سواحل أميركا الجنوبية، وتؤدي هذه الظاهرة إلى تغيرات في أنماط الرياح والتيارات البحرية، مما يؤثر على الطقس في مناطق بعيدة جدًا عن المحيط الهادئ.
أما ظاهرة النينيا فهي النقيض المناخي لظاهرة النينيو، وتتميز بانخفاض غير طبيعي في درجات حرارة سطح المحيط الهادئ الاستوائي الشرقي، خاصة قرب سواحل أميركا الجنوبية، يؤدي إلى تعزيز الرياح التجارية التي تدفع المياه الدافئة غربًا، مما يسمح بصعود المياه الباردة من الأعماق، ويؤدي إلى تغيرات مناخية عالمية مثل الجفاف والفيضانات.
تفاؤل حذر
ويرى مدير شركة “شلانير جرين” المتخصصة بتطوير أسواق المنتجات الزراعية نيلسون شلانير جونيور، في حديث مع “الشرق”، أن الحديث عن إمكانية إعادة تفعيل صادرات الولايات المتحدة من الصويا إلى الصين لن يشكّل خطراً كبيراً على المزارعين البرازيليين، لأن حجم الطلب الصيني اليوم واتساع العرض البرازيلي يمنحان بلادنا أفضلية واضحة”.
ويضيف: “تشير التقديرات إلى أن بكين لن تحتاج خلال الموسم المنتهي في أغسطس إلى أكثر من عشرة ملايين طن من الصويا الأميركية، وهو أدنى مستوى شراء كامل منذ عام 2006، لذلك يقرأ القطاع الزراعي في البرازيل الاتفاق الصيني – الأميركي على أنه تنويع للمصادر يهدف إلى موازنة العلاقات مع واشنطن، وليس استبدالاً للمورد الأول، وتبقى الولايات المتحدة بذلك مورّداً تكميلياً موسمياً، يدخل حين تتراجع الإمدادات البرازيلية، أو ترتفع أسعار الشحن”.
وحول المخاطر في الاعتماد على 85% من صادرات فول الصويا باتجاه مصدر واحد وهو الصين، أجاب نيستور أوليفيرا: “بكل تأكيد هذا الأمر يعد مخاطرة إلى حدٍّ ما، ولذلك شهدنا في الأشهر الماضية تحرّكاً نحو فتح المزيد من الأسواق، سواء في الشرق الأوسط الذي شهد زيادة أيضاً في الطلب على فول الصويا البرازيلي، وسجّل 30% زيادة عن عام 2024، أو حتى في الاتحاد الأوروبي الذي بقي مستقراً، ولم يسجّل نمواً كبيراً”.
وأشار إلى اتباع “سياسة تنويع المحاصيل مع المنتجين، إذ إن الأراضي التي تُستخدم في زراعة فول الصويا، وشهدت في الآونة الأخيرة زيادة في المساحة، ومع انتهاء محصول فول الصويا مباشرة يتم توجيه المنتجين إلى زراعة محاصيل أخرى مثل الذرة والقمح وحتى البطاطا، وتعد هذه الخطة صحية حتى للتربة، وبنفس الوقت تمكّننا من العمل بمرونة مع طلب الأسواق المحلية والعالمية على حدٍّ سواء”.

									 
					