
كتب المحامي يوسف بهاء الدويهي:
لا يمكن التعامل مع مشروع ما سُمّي «قانون الفجوة المالية» بوصفه نصًّا تقنيًّا معزولًا عن سياقه السياسي والدستوري، ولا كعلاجٍ سحريٍّ لانهيارٍ ماليٍّ هو الأعمق في تاريخ لبنان الحديث. فهذا المشروع، على الرغم من الثغرات الواضحة التي تعتريه وغياب الأرقام الدقيقة التي يُفترض أن تُشكّل عموده الفقري، ينطوي على قدرٍ من الجرأة السياسية في الاعتراف بحجم الخسائر والسعي إلى مقاربة توزيعها، بعد سنواتٍ من الإنكار والمماطلة.
غير أنّ هذه الجرأة، مهما كانت محدودة، لا تُعفي السلطة التنفيذية من مسؤولية تقديم مشروعٍ متكاملٍ، واضحِ المعايير، محدَّدِ الأرقام، وقابلٍ للمساءلة. فالدولة التي تطلب من مواطنيها تحمّل كلفة الانهيار، مطالبةٌ أولًا بتحديد مصادر الخسارة وأسبابها والجهات التي استفادت منها أو ساهمت في إنتاجها، انسجامًا مع أبسط مبادئ العدالة والمساواة أمام القانون المنصوص عليها في الدستور.
هنا يبرز الدور الجوهري لمجلس النواب، لا كهيئة تصديقٍ أو تسجيل، بل كسلطةٍ تشريعيةٍ كاملة الصلاحيات. فواجب المجلس لا يقتصر على إقرار القانون أو رفضه، بل يتمثّل في سدّ الثغرات، وضبط المفاهيم، وتحديد أطرٍ قانونيةٍ واضحةٍ لتوزيع الخسائر وتحميل المسؤوليات، بما يمنع تحويل «الفجوة المالية» إلى أداةٍ لتشريع الإفلات من العقاب أو تحميل العبء للفئات الأضعف وحدها.
وفي المقابل، فإنّ النقد السياسي لا يكتسب مشروعيته بمجرد رفع الصوت أو المزايدة الإعلامية. من يعترض على المشروع أو يهاجمه، مطالبٌ بطرح بديلٍ عمليٍّ قابلٍ للتنفيذ، لا بالاكتفاء بخطابٍ شعبويٍّ يُرضي الغرائز ويُعفي أصحابه من مسؤولية القرار. فالمجتمعات لا تُدار بالشعارات، ولا تُنقذ بالأوهام، بل بسياساتٍ عامةٍ واضحةٍ وخياراتٍ مؤلمةٍ ولكن عادلة.
أمّا ظاهرة الوزراء الذين يتسابقون إلى مخاطبة الرأي العام من موقع التبرؤ أو التمايز عن حكومتهم، فهي أخطر من أيّ نصٍّ قانونيٍّ معيب. فالعمل الحكومي، في الأنظمة الدستورية، يقوم على مبدأ التضامن الوزاري، لا على منطق الحملات الانتخابية المبكرة. وفي هذا السياق، يكتسب قول الوزير الفرنسي السابق جان-بيار شوفانمان دلالته العميقة:
«Un ministre, ça ferme la gueule؛ et s’il veut l’ouvrir, il doit démissionner».
فإمّا أن يكون الوزير جزءًا من القرار ويتحمّل تبعاته، وإمّا أن يغادر الموقع إذا تعارضت قناعاته مع السياسة العامة للحكومة.
إنّ مشروع «قانون الفجوة المالية»، بصيغته الحالية، ليس نهاية الطريق ولا بدايته الصحيحة. هو محطة اختبارٍ لجدّية السلطة: هل تسلك طريق المحاسبة والعدالة وتوزيع الخسائر وفق معايير قانونيةٍ واضحة؟ أم تُعيد إنتاج منطق التسويات الغامضة على حساب أصحاب الحقوق؟ الجواب لا يُكتب في البيانات، بل في النصوص، وفي شجاعة التشريع، وفي صدقية من يتصدّون لمسؤولية الحكم.

