يمثل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب نشر قوات الحرس الوطني في واشنطن، خطوته “الأكثر جرأة حتى الآن” في توسيع استخدام القوة العسكرية داخل الولايات المتحدة، وفق ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، الثلاثاء.
وكان ترمب قد أمر بإرسال 800 جندي من الحرس الوطني إلى العاصمة، مبرراً ذلك بأن المدينة “استولى عليها عصابات عنيفة ومجرمون متعطشون للدماء”، ليعزز الخطاب القائم على فرض النظام والقانون الذي يلقى صدى واسعاً لدى قاعدته السياسية.
وعزز ترمب هذا الإعلان، الاثنين، عبر وضع شرطة واشنطن فعلياً تحت سلطة الحكومة الفيدرالية، لتصبح خاضعة لإدارته. وبرر الرئيس هذه الخطوات بأنها ضرورية لأسباب متعددة، تراوحت بين الجريمة والتشرد.
ويمثل هذا الإعلان أحدث حلقة في سلسلة تحركات اتخذها ترمب لدفع حدود استخدام القوات الأميركية داخل الأراضي الوطنية، ما أثار جدلاً قانونياً واسعاً حول التوسع في دور الجيش داخل البلاد.
كما يستخدم ترمب القواعد العسكرية الأميركية كمراكز احتجاز للمهاجرين، ونشر الحرس الوطني في لوس أنجلوس وعلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
معركة قضائية
وقالت كاري لي، الزميلة البارزة في صندوق مارشال الألماني، والأستاذة السابقة في كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي: “أكثر التفسيرات تفاؤلاً هو أن هذه الخطوة تمثل محاولة لتحقيق مكسب إعلامي بادعاء الفضل في معدلات الجريمة المنخفضة تاريخياً في العاصمة”.
وأضافت: “أما التفسير الأسوأ، فهو أنها تجربة تمهيدية لاستخدامات أكثر إثارة للجدل من الناحية القانونية للقوات العسكرية في مدن أميركية أخرى”.
وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه ترمب نشر الحرس الوطني في واشنطن، انطلقت في سان فرانسيسكو محاكمة فيدرالية بشأن الطعن الذي قدمه حاكم ولاية كاليفورنيا، جافين نيوسوم، ضد تحرك ترمب قبل شهرين لوضع وحدات الحرس الوطني في الولاية تحت السلطة الفيدرالية.
وقد تكون هذه القضية “الشرارة الأولى” في معركة أوسع بكثير بشأن استخدام القوة العسكرية في شوارع البلاد، في وقت تُقابل فيه مزاعم الرئيس بوجود حالة طوارئ بجدل واسع.
ولطالما اعتمد ترمب على التهديد باستخدام القوة العسكرية الأميركية للتعامل مع المشكلات الداخلية. وخلال ولايته الأولى، قال كبير موظفي البيت الأبيض آنذاك، جون كيلي، إن من أكبر التحديات التي واجهته كانت إقناع الرئيس بالعدول عن استخدام الجيش داخل الأراضي الأميركية.
وأوضح كيلي، بحسب شخص مطلع على تلك النقاشات، أن ترمب لم يكن يدرك أن نشر الجيش داخل البلاد يُفترض أن يتم في ظروف نادرة فقط.
وبعد عودته إلى البيت الأبيض في وقت سابق من العام الجاري، بدأ ترمب يلاحظ بشكل متزايد مخيمات المشردين أثناء مرور موكبه عبر المدينة في طريقه إلى ملعب الجولف في سترلينج أو إلى مركز كينيدي، حسبما قال مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية.
وأضاف المسؤول: “هو (ترمب) يقيم في واشنطن لفترات أطول خلال هذه الولاية، ويتابع الأخبار فيها باهتمام”.
الاعتماد على القوة العسكرية
وأثار ترمب قضية الجريمة وانتشار الرسوم الجدارية مع عمدة واشنطن، موريل باوزر، خلال فترة الانتقال، وتابع عن كثب سلسلة من الجرائم التي وقعت خلال عطلة يوم الاستقلال في 4 يوليو، وكرر مراراً طرح موضوع الجريمة مع كبار مساعديه، بمن فيهم نائب كبير موظفي البيت الأبيض، ستيفن ميلر.
وعلى مدى نحو 150 عاماً، حد قانون “بوسيه كوماتاتوس” بشكل صارم من دور الجيش في إنفاذ القانون داخل الولايات المتحدة، مانعاً إياه من ممارسة مهام الشرطة بحق المدنيين، إلا في حالات نادرة يحددها القانون.
ومنذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، نُشر الحرس الوطني والجيش الأميركي داخل البلاد عدة مرات.
ففي يونيو، أمر ترمب بنشر قوات من مشاة البحرية الأميركية وعناصر من الحرس الوطني في كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس، بعد خروج متظاهرين احتجاجاً على دور عناصر وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك في اعتقال أشخاص مشتبه بكونهم مهاجرين غير نظاميين، ما أدى إلى وقوع مواجهات مع قوات إنفاذ القانون.
وعلى الحدود الأميركية المكسيكية، حيث تنتشر قوات من الجيش والحرس الوطني، احتجز الجنود مهاجرين داخل منطقة أُعلنت حديثاً باعتبارها “منطقة دفاع وطني”، كما استُخدمت طائرات سلاح الجو الأميركي لنقل المحتجزين خارج البلاد.
وقال وزير الدفاع الأميركي، بيت هيجسيث، الشهر الماضي، لأعضاء الكونجرس، إن قواعد عسكرية في ولايتي نيوجيرسي وإنديانا ستُستخدم لإيواء موقوفين يُشتبه في أنهم مهاجرون غير شرعيين، على أن تشرف وزارة الأمن الداخلي على احتجازهم.
وهذه الخطوة من شأنها توسيع شبكة المنشآت العسكرية المخصصة لاحتجاز المهاجرين، والتي شملت بالفعل قواعد عسكرية أميركية في فورت بليس بولاية تكساس، وجوانتنامو في كوبا، التي استُخدمت سابقاً لاحتجاز موقوفين.
أدوار غير محددة
ورغم استدعاء ترمب لجميع عناصر الحرس الوطني في واشنطن، البالغ عددهم 800 جندي، أوضح بيان للجيش أن ما بين 100 و200 جندي فقط سيقدمون الدعم لقوات إنفاذ القانون في أي وقت.
وقال المتحدث باسم الجيش الأميركي، ديف باتلر، إن الجنود لن يتواصلوا مباشرة مع المدنيين، بل سيقتصر دورهم على الوجود لردع المجرمين، إضافة إلى تقديم الدعم الإداري واللوجستي لقوات إنفاذ القانون.
وقال مسؤولون في واشنطن، إن معدل الجريمة العنيفة العام الماضي، سجل أدنى مستوى له منذ 30 عاماً.
وفي حين كان من المقرر أن تقتصر مهمة القوات التي نُشرت في لوس أنجلوس على حماية المباني الفيدرالية، توسع دورها ليشمل مرافقة عناصر وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك خلال اعتقالهم أشخاص يُشتبه في أنهم مهاجرون غير شرعيين.
وتبين أيضاً أن المهمة مفتوحة المدة، فبينما كان من المقرر بقاؤهم في لوس أنجلوس لمدة 60 يوماً فقط، أصدر البنتاجون مؤخراً أمراً جديداً بتمديد انتشارهم حتى أوائل نوفمبر.
ولم يتبق في المدينة سوى بضع مئات من عناصر الحرس الوطني، من أصل نحو خمسة آلاف أُرسلوا إليها، ويتمركز معظمهم في موقعين يضمان مبان اتحادية في لوس أنجلوس. ولم يتضح بعد المدة التي سيستمر فيها نشر الحرس الوطني في واشنطن.
وقال بيتر فيفر، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة في جامعة ديوك، تعليقاً على قرار ترمب، إن “هذه المهام شديدة التعقيد بالنسبة للجيش، وما إذا كانت ستنتهي بنجاح أو بفشل يعتمد على تفاصيل التنفيذ التي ما زالت غامضة”.
وأضاف: “كلما اقتربت تفاصيل التنفيذ من مهام الشرطة التقليدية، زادت الإشكاليات التي يواجهها الجيش، سواء من الناحية القانونية أو العملياتية”.
حالات سابقة
وسبق أن نشر رؤساء أميركيون الحرس الوطني لاحتواء اضطرابات مدنية واسعة النطاق، كما حدث في عام 1968 حين اندلعت أعمال شغب في واشنطن بعد اغتيال مارتن لوثر كينج.
وبالاستناد إلى “قانون التمرد” الصادر في عام 1807، نشر الرئيس ليندون جونسون 1750 عنصراً من الحرس الوطني وأكثر من 11 ألف جندي من القوات العاملة لدعم قوات شرطة واشنطن التي كانت تواجه صعوبات في السيطرة على الأوضاع.
وتمنح القوانين الخاصة بمقاطعة كولومبيا ترمب صلاحيات أوسع في استخدام الحرس الوطني مقارنة بما يتمتع به في باقي أنحاء البلاد، إذ يملك الرئيس السيطرة المباشرة على قوات الحرس الوطني في واشنطن من دون الحاجة إلى اتخاذ إجراءات لتحويلها إلى سلطة فيدرالية، كما هو مطلوب في الولايات الأخرى.