أظهر تقرير نشره المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا INSEE، أن هناك ما يقارب 10 ملايين فرنسي تحت خط الفقر، مشيراً إلى أن هذا الرقم ازداد خلال عام واحد فقط بمعدل 700 ألف شخص، وسط مخاوف السلطات الفرنسية بشأن تصنيف البلاد بين الدول الأوروبية.
وبحسب بيانات المعهد لعام 2023، وصل معدّل الفقر إلى 15.4%، وهو أعلى مستوى له منذ بدء التعداد السكاني في فرنسا في عام 1996، كما اقتربت الفجوة بين أغنى 20% وأفقر 20% من مستواها في أوائل سبعينيات القرن الماضي.
ومنذ ما يقارب 30 عاماً، يقيس معهد INSEE الحكومي الفقر وعدم المساواة بين سكان فرنسا الذين يعيشون في مساكن عادية، إلا إنه لم يسبق أن بلغت هذه المعدلات ذروتها المسجلة في عام 2023، والتي أظهرت أن 9.8 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر النقدي، المُحدد بنسبة 60% من متوسط الدخل الشهري، أو 1288يورو للفرد الواحد، أي ما يعادل 15% من عدد السكان في فرنسا.
سياسات المحافظين
المحلل الاقتصادي ماهر نيقولا الفرزلي، المدير التنفيذي للمركز الأوروبي الآسيوي للدراسات الاستراتيجية، والمستشار السابق في البنك الدولي، اعتبر في تصريحات لـ”الشرق” أن “هذا الإفقار الجماعي الصادم للطبقة العاملة الفرنسية، هو النتيجة المباشرة لـ3 عقود من السياسة الاقتصادية المحافظة الجديدة”.
وأضاف أن “الواقع الذي قد لا يحب المعلقون المحسوبون على التيار الليبرالي التقدمي من صحف (لوموند) و(ليبيراسيون) و(فرانس إنتر) سماعه، يُشير إلى أن الائتلاف الوسطي الحاكم بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون، وقادة الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند وجاك ديلور، والجمهوريون من يمين الوسط مثل نيكولا ساركوزي وإدوارد فيليب. جميعهم مسؤولون عن هذا الوضع الاجتماعي الكارثي”.
وتابع الفرزلي: “بعد انتهاء الحرب الباردة مباشرةً، وتوقيع معاهدة ماستريخت في عام 1993 قررت النخب السياسية والفكرية في باريس التخلي عن النموذج الاقتصادي الصناعي الفرنسي الأصيل المعروف باسم (الكولبيرتية)، الذي تبنته فرنسا في عهد الوزير جان-باتيست كولبير خلال القرن الـ17، وجمع بين الرأسمالية المركزية التي تُركز على الابتكار التكنولوجي والاستثمار في البنية التحتية (هنري دو سان سيمون، فرديناند ديليسبس)، والحمائية والقومية الاقتصادية (الجنرال ديجول، مارسيل داسو)”.
وأضاف: “نجح هذا النموذج بشكل باهر على جميع المستويات، وحقق نمواً اقتصادياً مرتفعاً، وتميزاً تكنولوجياً، وأجوراً مرتفعة للطبقة العاملة الفرنسية، حيث كانت باريس محط حسد العالم قبل 30 عاماً، لكن بعد 3 عقود من التدهور الاقتصادي والتدمير الاجتماعي، بدأ الرأي العام الفرنسي يدرك أخيراً أن البلاد تعرضت للخيانة من قِبل نخبها، أمثال جاك ديلور، وإيمانويل ماكرون، ورافائيل جلوكسمان، الذين عملوا بلا كلل على تدمير (النموذج الفرنسي) واستبداله بعقائد المحافظين الجدد التي فرضتها أميركا والمفوضية الأوروبية وغيرهما”، وفق تعبيره.
وأشار الفرزلي، إلى أنه وفقاً لبيانات البنك الدولي، أصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي الآن أقل بنسبة 50% إلى 60% من نظيره في الولايات المتحدة أو أيرلندا، معتبراً أنها “علامة واضحة على الفشل المالي”.
فئات اجتماعية جديدة تحت خط الفقر
تراجع الأوضاع الاقتصادية في فرنسا، دفع الكثير من المؤسسات والجمعيات إلى محاولة دعم الفئات الفقيرة في مختلف أنحاء فرنسا.
وفي حديث لـ”الشرق”، قالت سارة سميا المسؤولة في جمعية “سوكور”، التي تعتمد على تبرعات المساهمين، إنهم لاحظوا منذ سنوات ازدياد الطلب على المساعدات، مشيرةً إلى التعاون مع الكثير من المتبرعين لدعم من باتوا مصنفين من خلال الدولة كفقراء، بما فيهم الفئات التي لا تكفيها أجورها، لتأمين الاحتياجات الضرورية.
وأوضحت أن معظم الاحتياجات التي يتم توفيرها للفئات المعوزة تتمثل في “الحليب والحفاضات، والثياب، والأحذية، من فاعلي الخير والمصانع والشركات التي تخصص مبالغ لشراء هذه الحاجيات او هي تتبرع بها”.
وأضافت سمية: “لم تشهد فرنسا منذ سنوات زيادة على الأجور، بينما التضخم يسجل مستويات كبيرة، ولذلك الوضع الاقتصادي والاجتماعي أصبح متردياً للغاية، وهذا يترك آثاراً اجتماعية سلبية على الأطفال، مثل التسرب المدرسي، وتوجه القصر إلى طرق غي قانونية لتأمين لقمة العيش، فضلاً عن عمليات الاستغلال وتفشي المخدرات”.
وقالت المسؤولة في جميعة “سوكور”، إن اللافت في السنوات الأخيرة، هو ارتفاع الإقبال على طلب المعونات من فئات اجتماعية جديدة، إذ لم يعد الأمر يقتصر على مجتمعات اللاجئين والمهاجرين.