
كتبت نوال الجبر في صحيفة الرياض.
حين تتسع الرؤية لتشمل الإنسان، يصبح الوطن أكثر من مساحة جغرافية؛ يصبح فكرةً تحتضن العالم، وتمنح الحياة طابعها الإنساني الأعمق، هكذا تتجلى المملكة اليوم وهي تعيد تعريف التنمية بوصفها مشروعًا للروح قبل أن تكون مشروعًا للبنية، ومبادرة للحياة المشتركة قبل أن تكون برنامجًا للتنظيم، إنها المملكة التي تتحدث إلى العالم بلغةٍ تجمع بين الثقة والوعي، وبين الأصالة والانفتاح، تحت مظلة رؤيةٍ تستند إلى القيم، وتطل على المستقبل بعيونٍ عالمية وروحٍ سعودية.
في هذا الإطار، تمثل مبادرة «انسجام عالمي» أحد الملامح البارزة لبرنامج «جودة الحياة» ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030، حيث تؤكد أن التنمية لا تقاس بما يشيد من عمرانٍ فقط، بل بما يُبنى في الإنسان من وعيٍ واتساعٍ وتفاهم، فالمجتمعات لا تزدهر حين تتشابه، بل حين تعرف كيف تدير اختلافاتها بروحٍ من التكامل والاحترام.
ما يحدث اليوم في المملكة ليس مجرد مهرجاناتٍ أو فعالياتٍ موسمية، بل تحول في بنية الوعي الجمعي، حيث يصبح التنوع الاجتماعي قاعدةً للتماسك لا مصدرًا للاختلاف، فحين يرى الزائر عشرات الجنسيات تتشارك الفضاء ذاته، وتمتزج موسيقاها وأزياؤها وألوانها في انسجامٍ واحد، يدرك أن المملكة لم تعد تتحدث عن التعايش بوصفه هدفًا، بل تعيشه واقعًا ينبض في تفاصيل مدنها وسلوك مجتمعها.
وهكذا تتحول المبادرة من مشروعٍ وطني إلى رسالة عالمية تحمل توقيع المملكة، أن الثقافة ليست حكرًا على النخبة، بل لغة مشتركة يمكن أن توحد الشعوب حين تدار بروح الوعي والتقدير، وأن التعايش لا يحتاج إلى شعارات، بل إلى ممارسة تترجمها الحياة اليومية، حين يجلس الناس حول طاولة واحدة، أو يسيرون في شارعٍ واحد، أو يحتفلون بنغمة واحدة، لا تلغي اختلافهم بل تعظمه جمالًا.
في جوهر «روح عالمية» تتجسد فلسفة المملكة: أن الإنسانية لا تختزل في الحدود، وأن العالم يمكن أن يعيش في مدينة واحدة حين تتوفر الإرادة والوعي، فحين يسير الناس جنبًا إلى جنب في بيئة تحتفي بالجميع، تنمو الثقة، ويتحقق الأمن الاجتماعي، ويعاد تعريف الوطن بأنه المكان الذي تتجاوز فيه الاختلافات لتصنع وحدة أعمق.
وهكذا تتجاوز المبادرة إطارها الثقافي لتصبح ركيزة للتنمية المستدامة، فالمجتمع المنسجم هو المجتمع الأكثر استقرارًا، والبيئة المتنوعة هي الأكثر إنتاجية، والتواصل الإنساني هو الأساس الذي تُبنى عليه القوة الناعمة للأمم، والمملكة وهي تنسج صورتها العالمية الحالية، تدرك أن الحضور الدولي لا يقاس فقط بالمشروعات العملاقة، بل بما تحمله من رسالة إنسانية تضعها في مصاف الدول القائدة للتغيير الإيجابي في القرن الحادي والعشرين.

