أعادت خارطة الطريق الجديدة التي طرحتها الأمم المتحدة إحياء الآمال في دفع العملية السياسية في ليبيا نحو الاستقرار بعد أكثر من عقد من الانقسام، لكن عقبات أمنية وسياسية ما زالت تهدد فرص تنفيذها، خصوصاً بالعاصمة طرابلس والمناطق الغربية.
واعتبر سياسيون وخبراء ليبيون تحدثوا لـ”الشرق”، أن الخطة الأممية تمثل خطوة إيجابية، غير أنهم حذروا من أن الهوة بين المبادرات الدبلوماسية والواقع على الأرض قد تعرقل جهود إنهاء الأزمة المستمرة منذ 14 عاماً.
وبعد جولات بين العواصم الخارجية ومشاورات داخلية، عرضت رئيسة البعثة الأممية في ليبيا، هنا تيتيه، رسمياً خارطة الطريق لحل الأزمة الليبية، وذلك خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي، الخميس.
وخلال عرض خطتها، قالت تيتيه: “نحن على قناعة بأن العملية السياسية يجب أن تركز على ضمان إجراء انتخابات عامة وتوحيد المؤسسات من خلال نهج متسلسل”.
ولفتت إلى أن قناعة البعثة الأممية تأتي “بناءً على توصيات اللجنة الاستشارية والملاحظات التي تلقيناها من الشعب الليبي، فضلاً عن الدروس المستفادة من فشل الجهود السابقة لإجراء الانتخابات في عام 2021″، وهو التاريخ الذي جرى فيه إرجاء الاستحقاق لأجل غير مسمى.
وقالت البعثة الأممية إن لجنة استشارية تابعة لها تتولى إعداد المقترحات اللازمة لمعالجة القضايا الخلافية المرتبطة بالإطار الانتخابي.
وأضافت أن الجانب التنفيذي للمبادرة، الممتد بين 12 و18 شهراً، يقوم على 3 مراحل رئيسية: تبدأ بإعداد إطار انتخابي متماسك فنياً وقابل للتطبيق سياسياً، تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.
أما المرحلة الثانية فتشمل توحيد المؤسسات من خلال حكومة جديدة موحدة بين الغرب والشرق، فيما تنص المرحلة الثالثة على إنشاء حوار يناقش مختلف القضايا ويتيح مشاركة واسعة لليبيين.
ولأن تيتيه تدرك طبيعة الأزمة الليبية وتعرف أن خطتها يمكن أن تواجه عراقيل كبيرة، لم تغفل الإشارة لذلك بالقول إن خارطة الطريق ستشمل البحث عن بدائل، إذا عمدت الأطراف إلى تعطيل أي من خطواتها.
ومضت المسؤولة الأممية أبعد من ذلك، مشيرة إلى أن بعض الأطراف تستغل الوضع الراهن لعرقلة المسار الديمقراطي من دون أن تسميها، محذّرة من أن أي تعطيل قد يدفع البعثة إلى اتخاذ التدابير اللازمة لضمان المضي قدماً في العملية واعتبارها ختاماً للمراحل الانتقالية.
آليات التنفيذ
ويُجمع كثيرون في ليبيا على أن آليات تنفيذ المبادرات الأممية كانت ولا تزال الحلقة الأكثر جدلاً، والعقبة التي أطاحت بالمبادرات السابقة، وسط واقع سياسي وأمني بالغ التعقيد والتقلب.
ويرى المحلل السياسي والكاتب الصحافي الليبي، أيوب الأوجلي، أن المبادرة الأممية “حملت في طياتها نقاطاً غامضة”، مسلطاً الضوء على الفترة الزمنية أو الإطار الزمني المطلوب لإتمام خارطة الطريق (بين 12 إلى 18 شهراً)، معتبراً أن “ما غاب عن تيتيه وما لم تفصح عنه بشكل واضح هو الآليات المنظمة للسير قدماً نحو تنفيذ الخارطة في هذه المدة”.
وأضاف الأوجلي لـ”الشرق”، أنه “إذا ما تأملنا بعض النقاط التي تحدثت عنها تيتيه مثل مفوضية الانتخابات، وتعديل الأطر القانونية والدستورية، فإننا نعود إلى ذات النقطة الخلافية الأساسية التي عطلت انتخابات 2021، والتي لا تزال عالقة”.
وتعثرت العملية السياسية في ليبيا منذ انهيار الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في ديسمبر من العام2021، وسط خلافات بشأن أهلية المرشحين الرئيسيين.
وما طرحه الأوجلي، المنحدر من الشرق الليبي، يجد صدى لدى أمينة محجوب، عضو المجلس الأعلى للدولة، التي ترى أن إحاطة المبعوثة الأممية لم تحمل حلولاً تنهي النزاع والانقسام أو تطوي صفحة المراحل الانتقالية، بل على العكس، عززت فكرة انتقال السلطة إلى حكومة جديدة والمضي نحو انتخابات تُجرى من دون دستور دائم.
وقالت أمينة محجوب لـ”الشرق”، إنه “لذلك كان على المبعوثة الأممية أن تعتمد على المسودة التي أقرتها الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور حتى لا يحتكم أي مجلس تشريعي آخر للتمديد لنفسه من خلال إقرار قوانين جديدة”.
واتهمت عضوة المجلس الأعلى للدولة البعثة الأممية بأنها “لا تريد الاعتماد على الدستور لأن مفهوم بقائها يعتمد على المراحل الانتقالية، ولذلك فهي مستفيدة من حالة الانقسام المستمرة في ليبيا”.
وتابعت: “بدلاً من رأب الصدع، تزيد البعثة الأممية من حالة الانشقاق والانقسام بدليل استمرار اعتمادها على القاعدة الدستورية المعيبة التي أقرها مجلس النواب”.
ومنذ إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، يتواصل الجدل في ليبيا بشأن إمكانية كتابة دستور دائم للبلاد، فيما يتمسك كل فصيل برؤية مختلفة عن الآخر.
ولا تتردد “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور”، التي أعدت مشروع دستور 2017، في تحميل جميع الأجهزة الحاكمة المسؤولية عن تعطيل إجراء الاستفتاء على الوثيقة.
وسبق أن صعدت الهيئة لهجتها حيال البعثة واتهمتها بـ”مخالفة مبدأ السيادة الوطنية وتجاوز اختصاصاتها”، مشددة على أن “مشروع الدستور هو الصيغة الوحيدة التي لا يمكن القفز عليها أو استبدال أي مبادرات أخرى بها دون الرجوع إلى إرادة الشعب الليبي عبر الاستفتاء العام”.
وشكلت آليات التنفيذ عقبة أخرى، بحسب الباحث الليبي في الدراسات الاستراتيجية والسياسية، محمد امطيريد، الذي أوضح أن “المشكلة لا تكمن في صياغة النصوص بقدر ما تكمن في آليات تطبيقها على الأرض، خصوصاً في بيئة منقسمة أمنياً وسياسياً”.
واعتبر امطيريد في حديثه لـ”الشرق”، أن الخارطة الأممية تمثل “ترجمة للانسداد المستمر منذ فشل انتخابات 2021، ومحاولة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي عبر 3 عناصر رئيسية تشمل: إطاراً قانونياً متوافقاً عليه، وحكومة مؤقتة موحدة، ومسار حوار شامل”.
“تشكيك في استجابة الفرقاء”
ويسود اعتقاد لدى قسم من الليبيين أن البعثة الأممية لم تتلق، رغم الجولات التي سبقت إعلان المبادرة، إشارات واضحة من مختلف الفرقاء.
ويعتبر عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، أحمد اهمومة، أن “ما قدمته المبعوثة الأممية هي ملامح لخارطة الطريق ولم تكن خارطة مكتملة واضحة المعالم”.
ومستشهداً بما ورد في الإحاطة، قال اهمومة لـ”الشرق”: “لو أخذنا شق الحكومة (سلطة تنفيذية جديدة موحدة خلال مدة لا تتجاوز شهرين)، لم توضح تيتيه كيفية القيام بذلك مع ضيق الوقت، لأن شهرين لا يكفيان حتى لفتح باب الترشح وفرز الملفات”.
وتطرق أيضاً لنقطة تصحيح الوضع القانوني للمفوضية، لافتاً إلى أنها “تحتاج أيضاً إلى توافق بين شقي السلطة التشريعية (مجلسي الدولة والنواب) ضمن ملف متكامل للمناصب السيادية، ربما يكون هذا بالتزامن مع تغيير الحكومتين. لكن تبقى المناصب السيادية ملفاً معقداً ويصعب الخوض فيه”.
ولتلافي معوقات 2021، تساءل اهمومة عن كيفية تصحيح الإطار القانوني في ظل وجود خلاف كبير على شروط الترشح وكذلك بعض البنود الأخرى.
وأشار أهمومة إلى أن الانتخابات الرئاسية المقبلة تتطلب قاعدة دستورية تمثل أساس المرحلة القادمة، أو ما يُعرف بالمرحلة الدائمة.
وأوضح أن هذا الأمر “يستلزم وقتاً، إضافة إلى جمعية تأسيسية مكلفة بالنظر في تعديل مسودة الدستور أو البناء عليها لإعداد إطار دستوري مؤقت يُصبح مرجعاً للسلطات المنتخبة”.
أما بالنسبة للمحلل السياسي والكاتب الصحافي الليبي، أيوب الأوجلي، فقد ذكرت المبعوثة الأممية “كلمة أعتبرها غاية في الخطورة وهي أنه في حال توفرت الإرادة السياسية للقيام بذلك، وهذا يعني بشكل واضح أن البعثة الأممية لم تتلق إجابات شافية من الأطراف السياسية المشاركة أو الذين تقترحهم للمشاركة في العملية السياسة وأيضاً أطراف اللعبة الحاليين”.
وزاد: “لم تتلق البعثة إجابة شافية على أن هؤلاء سينخرطون بشكل فعال في عملية التغيير المقبلة”.
ومع أن المحلل السياسي الليبي فرج دردور يرى “وضوحاً هذه المرة في المبادرة الأممية وتدرجاً في عملية التطبيق وتأخذ في الاعتبار تطلعات الشعب الليبي من خلال الآراء، إلا أنه توقف عند اعتمادها في آلياتها على عاملين أساسين: دعم مجلس الأمن والبيئة المواتية في ليبيا”.
واستناداً إلى تجارب السنوات الماضية، يذهب دردور، في حديثه لـ”الشرق”، إلى أنه “تمت تجربة هذين العاملين وثبت أنهما ضاغطين على أي حلول في ليبيا، إذ أن مجلس الأمن الذي تعول عليه تيتيه منقسم في الحقيقة”.
كما تطرق إلى ذات الجزئية المتعلقة بربط تيتيه تجسيد المبادرة بـ”توفر البيئة الملائمة”، معتبراً أن هذا الأمر يطرح “إشكالية بحكم أن البيئة متغيرة بشكل دائم، وهي بيئة معارك وإشكاليات، فهناك من يسيطر على الأرض ويعرقل القيام بالانتخابات، ولذلك فإنه إذا كانت النتائج لا تصب في مصالح هذا المعرقل، فأعتقد أن تنفيذ الخطة من خلال هذين الشرطين غير مضمونة”.
توحيد السلطة التنفيذية
يصف الأوجلي توحيد السلطة التنفيذية بأنه “نقطة جوهرية”، مشيراً إلى أن أي نقاش بشأن تغيير الحكومة أو توحيدها، بحسب تعبير تيتيه، “قد يُقرأ بشكل سلبي، خاصة بالنظر إلى ردود الأفعال على الإحاطة الأممية”.
وبدأ الخبير الليبي بتحليل ردود الفعل من عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، الذي كتب على صفحته في فيسبوك أن موقفه ثابت بشأن إجراء الانتخابات على أساس قوانين قابلة للتنفيذ، وأنه يرحب بالمشاركة العالية في الانتخابات البلدية. وأوضح أن الليبيين يتطلعون إلى دعم مجلس الأمن في اختيار مسار الانتخابات، وأن القوانين الانتخابية كانت العقبة التي عطّلت العملية منذ 2021.
ويشير الأوجلي إلى أن قراءة تدوينة الدبيبة تكشف عن رغبته في البقاء جزءاً من المشهد السياسي القادم، وعدم تسليم السلطة، وهو ما يتعارض مع خطة تيتيه لتوحيد السلطة التنفيذية
وهذه الرؤية يؤيدها المحلل السياسي الليبي عثمان التايب، والذي يعتبر أن الدبيبة “متمسك برؤيته للمرحلة القادمة والتي من ضمن بنودها تنظيم استفتاء شعبي على مسودة الدستور والمضي نحو انتخابات برلمانية تنبثق عنها حكومة تكون قادرة ومؤهلة للإعداد لإجراء انتخابات رئاسية”.
ويذهب التايب، في حديث لـ”الشرق” إلى أن الدبيبة “يتمتع بحزام قوي في طرابلس والمنطقة الغربية، خصوصاً في ما يتعلق بالأجهزة الأمنية، لكن هذه النقطة الإيجابية يمكن أن تنقلب إلى ضدها في حال حدوث أي توتر على الأرض حتى وإن كان مفتعلاً، ما قد يدفع نحو إجهاض المبادرة أو تعطيلها”.
والتمسك بمسودة الدستور لعام 2017 كمرجعية للمبادرة تؤيده أيضاً محجوب بالقول: “نحن نؤيد أي خطوة تودي إلى اعتماد دستور، أما الاعتماد على قاعدة دستورية فلا يشمل أي شروط أو قوانين تنظيمية، نظراً لغياب نصوص دستورية ملزمة، ولذلك يبقى الدستور هو الفيصل”.
وأعربت أمينة محجوب عضو المجلس الأعلى للدولة عن أسفها لعدم اعتماد كل المبادرات السابقة على دستور تم إعداده، مشيرة إلى أنه من المفترض أن يقوم مجلس النواب بالتعديل باعتماد المسودة، بدلاً من الاستفتاء عليها باعتبار أن الهيئة التي أعدت (مسودة) الدستور منتخبة.
خارطة المواقف
وأشار الأوجلي إلى أن حكومة أسامة حماد في شرق ليبيا “لم تتأخر في إبداء موقفها، حيث رحبت بخارطة الطريق وبضرورة تشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحدة لكامل التراب الليبي، مؤكدة التزامها بالوقوف إلى جانب الشعب الليبي ودعمه في خيار الانتخابات”.
وأوضح الخبير أن رد الفعل الإيجابي شمل أيضاً التعاون مع كافة الأطراف الوطنية والدولية لضمان الأمن والسيادة في ليبيا.
وعرج الأوجلي على موقف رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، الذي رحب بدوره بجهود تيتيه وبمسألة التوافق على أسس قانونية لإعطاء الشعب كلمة الفصل، لكنه لم يتخلَ عن فكرته بشأن الاستفتاء على النقاط الخلافية، والتي كانت السبب في إنشاء المفوضية العليا للاستفتاء وأثارت جدلاً خلال الفترة الماضية.
أما رد الفعل الأخير فكان من عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في بنغازي، الذي رحب بما جاء في إحاطة تيتيه، لكنه شدد على شرعية الحكومة التي تعمل تحت إشراف مجلس النواب، في إشارة واضحة إلى حكومة أسامة حماد.
ويرى الباحث محمد امطيريد، المنحدر من الشرق الليبي، أن هذا الترحيب أولي ومشروط برسائل مزدوجة، فهو يؤكد على شرعية حكومة الشرق وفي الوقت نفسه يسعى لوضع نفسه في موقع السيطرة على المفتاح التشريعي. وأضاف أن بعض أعضاء مجلس الدولة قد يجدون فرصة للتقاطع معه إذا توفرت ضمانات حقيقية بشأن المناصب وشروط الترشح، وهي القضايا التي فجّرت مسار انتخابات 2021.
ماذا تغير؟
يستنتج الأوجلي من ردود الفعل على إحاطة المبعوثة الأممية أن الأطراف الليبية ما زالت متمسكة بمواقفها، باستثناء الحكومة الليبية التي رحبت بأي حكومة جديدة وأبدت استعدادها للتعاون مع جميع الأطراف.
وأضاف أن “الدبيبة لا يريد تسليم السلطة، وعقيلة صالح يتمسك بحكومته المعينة، ومحمد المنفي متمسك بمسألة الاستفتاء الشعبي على القوانين الخلافية التي أعاقت انتخابات 2021”.
وخلص إلى أن “الخلاف لا يزال قائماً بين أطراف اللعبة السياسية الليبية، والمسألة مازالت محتقنة، وتيتيه رغم لقاءاتها قبل هذه الإحاطة، سواء هي أو ستيفاني خوري، لم تصلا إلى قاعدة صلبة يمكن الانطلاق من خلالها للوصول إلى الانتخابات”.
وقبل إحاطة تيتيه بمجلس الأمن، تابعت نائبتها ستيفاني خوري الملف الأمني الليبي باجتماعات رفيعة في طرابلس.
غير أن التايب المقيم بطرابلس، يذهب عكس الأوجلي في بعض النقاط، معتبراً أن “تمسك بعض الأطراف بمواقفها لا يعني أنها ضد تنفيذ المبادرة الأممية، لكن الواقع يفرض توفير آليات محددة وواضحة للتنفيذ على أسس صلبة تضمن الذهاب نحو الانتخابات وإرساء مؤسسات دائمة وموحدة”.
والطرح نفسه يؤيده خليفة الدغاري، عضو مجلس النواب الليبي، بالإشارة إلى أن المبعوثة الأممية “لم تقدم أي مؤشرات لحل جدي للأزمة الليبية بل مجرد الحفاظ على استقرار هش بعيداً عن الخوض من أجل إنهاء حقيقي لحالة الانقسام في السلطات المؤثرة، خاصة المؤسسة العسكرية ودمج ونزع سلاح المجموعات المسلحة”.
وخلص الدغاري، في تصريحه لـ”الشرق”، إلى أن ما تقدم “يعيق قيام أي سلطة تنفيذية جديدة بمهامها بكل فعالية على كامل تراب ليبيا”.
الصاروخ.. رسالة؟
أثناء تقديم تيتيه إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك، كان صاروخ متجهاً نحو المقر الرئيسي للبعثة الأممية في طرابلس، لكنه سقط قرب المبنى دون أن يسفر عن خسائر بشرية أو أضرار مادية.
وأعلنت وزارة الداخلية التابعة لحكومة الدبيبة أن “محاولة الهجوم بصاروخ (إس بي جي) أُحبطت بفضل يقظة الشرطة وقوات الأمن”، مشيرة إلى أن الصاروخ أصاب منزلاً في بلدة جنزور بضواحي طرابلس، كما تم ضبط شاحنة صغيرة تحتوي على صاروخين آخرين ومنصة إطلاق.
ورأى الباحث الليبي محمد امطيريد، شأنه شأن معظم المحللين للشأن الليبي، أن محاولة استهداف مقر البعثة “لم تكن مجرد حادث أمني عابر، بل رسالة سياسية واضحة اختير توقيتها بعناية لتتزامن مع إحاطة تيتيه”.
وأضاف أن “الرسالة مفادها أن هناك أطرافاً قادرة على تعطيل المسار أو التشويش عليه، وأن أي تقدم في الخطة الأممية سيخضع لاختبار ميداني”.
المحلل السياسي الليبي فرج دردور يمضي أيضاً في هذا الاتجاه معتبراً أن محاولة الاستهداف هدفها “الضغط على البعثة بحيث تكون قرارتها أو مخرجاتها تتماشى مع من قام بهذا الفعل وهي عرقلة أيضاً للضغط عليها وطردها وبالتالي من أجل ضمان بقاء الأمور على ما هي عليه خصوصاً أن مهربي النفط والبشر سيكونون أكثر المتضررين من استقرار ليبيا ومن الانتخابات ومن وجود حكومة واحدة”.
وبالتالي يقول دردور: ” هؤلاء يعيشون بيئة الفوضى ولا يمكنهم العمل أو تنفيذ عملياتهم إلا في ظل هذه التناقضات الموجودة ولذلك يعملون على عرقلة كل الحلول ومنها الضغط على البعثة وطردها حتى لا يكون هناك حل يفضي في النهاية للقضاء على الإجرام”.
ولا يختلف الأوجلي، بدوره، مع سابقيه من الخبراء، معرباً عن اعتقاده بأن “هذه القاذفة هي رسالة مهمة جداً للبعثة الأممية: رسالة من الأطراف الفاعلة في طرابلس بأننا باقون ولن نتحرك ونحن لدينا القوة والسلاح وربما نهددكم ونعيدكم للعمل من تونس من جديد وما إلى ذلك”.
شبح التوتر الأمني
تخشى أوساط ليبية أن تُدفع طرابلس وبعض مدن الساحل الغربي مجدداً إلى مربع الفوضى بهدف عرقلة جهود تنفيذ خارطة الطريق، معتبرة أن الأطراف التي أفشلت مسار 2021 هي ذاتها التي تتهيأ اليوم لقطع الطريق أمام أي حل سياسي يهدد مصالحها.
ولتفادي هذه المخاطر، شدد النائب عبدالسلام الدغاري على “ضرورة فتح حوار جاد بين مجلسي النواب والدولة للاضطلاع بالاستحقاقات المنوطة بهما، وتهيئة بيئة توافقية تسمح بإخراج البلاد من أزماتها”. لكنه أبدى في الوقت نفسه تشاؤمه قائلاً: “لا توجد مؤشرات حقيقية على انطلاق خارطة الطريق الحالية”، مرجحاً أن تظل الأوضاع على حالها “رغم الترحيب المعلن من مختلف الرئاسات، وهو ترحيب لا يعكس نوايا صادقة لبناء دولة المؤسسات والقانون”.
ويرى محللون أن استمرار الجمود قد يعني رفضاً ضمنياً من بعض الأطراف للخارطة الأممية، وهو ما قد يُترجم بمحاولات اللعب على الوتر الأمني، سواء عبر مناوشات أو اشتباكات مفتعلة بين التشكيلات المسلحة.
هذا السيناريو يتفق معه الباحث أحمد التايب، إذ يحذر من أن “المضي في تفعيل الخارطة قد يقود عملياً إلى تسريع جهود حكومة الدبيبة لنزع سلاح المجموعات المسلحة، وبالتالي تجدد المواجهة المؤجلة مع قوة الردع الخاصة التابعة للمجلس الرئاسي”.
ويضيف التايب أن “المعادلة واضحة: فالدبيبة سيمضي في اتجاه يتعارض مع رغبة قوة الردع وحلفائها الذين يرفضون التخلي عن سلاحهم أو نفوذهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى أحد احتمالين: إما افتعال مناوشات تدفع بالمبادرة الأممية إلى الهامش، أو انزلاق الوضع الأمني إلى مواجهة مفتوحة قد تشعل العاصمة الليبية وتفتح أبواب الجحيم”.
وفي الحالتين، ستكون النتيجة كارثية ما سيعيد الأوضاع إلى المربع الأول، وفق التايب الذي يعتبر أن “الدبيبة في النهاية يستفيد من عدم جاهزية أطراف أخرى للحل السياسي في ليبيا وخصوصاً المليشيات والمجموعات المنتشرة في الغرب”.
وبناء على ذات الاحتمالات، يشدد امطيريد، من جهته، على أن “المشهد الأمني يظل الخطر الأكثر إلحاحاً، فطرابلس ما زالت ساحة مكتظة بالتشكيلات المسلحة، وكل منها يبحث عن تثبيت نصيبه من السلطة والموارد”.
وتابع أن “أي احتكاك بسيط أو عملية تصفية يمكن أن تتحول بسرعة إلى مواجهة واسعة، خصوصاً بين المجموعات الموالية للدبيبة وقوة الردع وحلفائها وهذا الواقع يجعل سيناريو التحركات المفتعلة وارداً في أي لحظة، وقد يُستخدم كذريعة لتجميد الخطة الأممية بحجة عدم توفر البيئة الآمنة”.
دردور لم يخف أيضاً مخاوفه حيال هذه الجزئية، معتبراً أن “حدوث تحركات على الأرض لإفشال الخطة الأممية والسيطرة على الأرض يظل أمراً محتملاً جداً وإن كان هذا يحصل في المنطقة الغربية أكثر من الشرقية”.
وأكد أن “بعض المجموعات المسلحة قد تفتعل مشاكل أو أن الحكومة نفسها قد تتجه لتصفية حسابتها أو تصفية بعض المجموعات المسلحة لكي يكون موقفها التفاوضي أكثر قوة، وهذا وارد في أي لحظة”.
القبائل على الخط
بدو أن المشهد لا يقتصر على البعد الأمني فقط، بل يمتد أيضاً إلى احتمالات ذات طابع قبلي. ففي تقدير أحمد التايب، قد يتطور التوتر القائم إلى احتجاجات قبلية تنتهي بإغلاق الحقول والموانئ النفطية، في تكرار لسيناريوهات سابقة.
ويرى المحلل امطيريد أن هذا البعد القبلي “يضيف طبقة أخرى من التعقيد، لأن القبائل تدرك أن ورقة النفط هي أسرع وسيلة لفرض شروطها في أي مسار تفاوضي”، محذراً من أن أي تصعيد على هذا المسار ستكون كلفته الأولى على الاقتصاد الليبي.
لكن الأكاديمي دردور يطرح رؤية مغايرة، إذ يقلل من شأن “البعد القبلي” معتبراً أنه “مسمى مفتعل يُستخدم من حين لآخر كصوت يعكس واقع الحكم العسكري في المنطقة الشرقية، دون أن يعبر عن تمثيل حقيقي أو قوة مستقلة على الأرض”.
غير أن التايب لا يوافقه الرأي، مؤكداً أن “القبائل لطالما كان لها دور مسموع في التاريخ السياسي والاجتماعي لليبيا، فهي شريك فاعل في الحكم، ولها دور جوهري في التهدئة زمن الأزمات والتوترات”.
سيناريوهات
في ظل التطورات والحيثيات الراهنة تصبح للاحتمالات أهمية بالغة، وهذا ما يؤكده الأوجلي من خلال عرضه اثنين من السيناريوهات التي يقول إن ليبيا تمضي نحو أحدها على الأقل بعد طرح الخطة الأممية.
الأول وهو الذي سيتخده الدبيبة، على حد تعبير الخبير الذي يعتقد أنه “لا حل أمام رئيس حكومة الوحدة الوطنية الآن سوى أن يكون جزءاً من المشهد القادم، ولذلك عليه شن حرب أخرى في طرابلس وتكرار ما حصل في مايو الماضي، عندما قتل عبد الغني الككلي رئيس جهاز (دعم الاستقرار) ومحاولة إزاحة خصومه من طرابلس، وهنا أتحدث عن قوة الردع بقيادة عبد الرؤوف كارة، ليكون هو المسيطر الحقيقي على كامل المنطقة الغربية الممتدة من بعد سرت إلى الحدود التونسية وبعض المدن المحيطة بالعاصمة طرابلس”.
ورجح الأوجلي أن يسعى الدبيبة لتحقيق هذا السيناريو بشكل سريع مستنداً لقناعته بأن “عدم إحكام سيطرته على طرابلس سيجعله خارج المشهد وخارج أي اتفاق سياسي جديد”.
أما السيناريو الثاني، فقد يتجسد، وفق الأوجلي، في “تكرار ما حدث مع من سبق تيتيه من المبعوثين الأمميين، أي بدء حوار، وعقد اجتماعات اللجنة 6+6، واجتماعات اللجنة العسكرية وبدء مسار اقتصادي وغيرها من المسارات المنبثقة عن برلين وعدة اجتماعات متوالية، ثم تخرج لتقدم استقالتها في إحدى جلسات مجلس الأمن أو تقدم استقالتها مباشرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو جوتيريش، ويتم تعيين مبعوث جديد ونبدأ ذات الكرة من جديد وتعود الأزمة لنقطة الصفر”.
و”6+6″، هي اللجنة المكلفة من مجلسي النواب والأعلى للدولة في ليبيا بإعداد القوانين الانتخابية، وتضم 6 ممثلين عن كل مجلس.
نافذة أمل؟
رغم العتمة المخيمة على المشهد الليبي، إلا أن امطيريد “يترك نافذة للأمل وإن كانت ضيقة”، قائلاً إنه يمكن البناء عليها، لكنها مشروطة بـ3 عوامل: أولاً اتفاق مكتوب وملزم بين مجلسي النواب والدولة حول الحكومة والقوانين الانتخابية.
وثانياً: “تفاهمات أمنية داخل العاصمة تمنع أي طرف من افتعال مواجهة تُستخدم لتعطيل المسار، وثالثاً، ضغط دولي منظم يجمع بين الحوافز الاقتصادية والعقوبات السياسية لضمان احترام الجدول الزمني”.
وشدد على أنه “من دون هذه الشروط، سنعود مجدداً إلى سيناريو التجميد الناعم، حيث تبقى الانتخابات شعاراً متكرراً بلا مضمون، وتبقى البلاد عالقة في دائرة الانتظار”.
وقال الأوجلي إن “الشروط صعبة التنفيذ، ما يفاقم تعقيد الوضع، إذ قد لا تكون خارطة تيتيه قابلة للتنفيذ، إلا في حال تم تنفيذ أمر واحد لا غير وهو ما أكدت عليه المسؤولة الأممية خلال الجلسة وهو تطبيق عقوبات رادعة على المخالفين أو لمعرقلي الانتخابات”.
ولأن هذه العبارة تكررت لدى معظم المبعوثين الأمميين السابقين، أكد الخبير أنه في “حال تنفيذ هذه العقوبات فقد تنفذ الخارطة، ولكن في حال كان هذا مجرد تهديد فأعتقد أن خارطة الطريق التي تسعى لها تيتيه لن تتجسد”.
ويختم اهمومة من جانبه بالقول إن “الأهم من كل ذلك هي العقوبات التي سيتخذها مجلس الأمن لردع المعرقل. ونحن نعرف مسبقاً من هو”، دون تفاصيل أكثر عن الجزئية الأخيرة.