تنشر “المجلة” على 6 حلقات محاضر اجتماعات الرئيس السوري الاسبق حافظ الأسد والزعيم الدرزي وقائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط قبيل وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدت نهاية العامين الأولين منها دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط على أيدي من يُعتقد أنهم عناصر من أجهزة المخابرات السورية سنة 1977.. هنا الحلقة السادسة والأخيرة.
المقدمة: وثائق سرية سورية عن الدخول إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط
الحلقة الأولى: الأسد “يستجوب” جنبلاط عن خصومه في لبنان… ويرفض عودة “البعثيين” إلى سوريا
الحلقة الثانية: ما بعد عين الرمانة… لبنان على شفا الحرب الأهلية
الحلقة الثالثة: من “السبت الأسود” إلى الدامور: حوار وسط المجازر
الحلقة الرابعة: الأسد وجنبلاط… اللقاء الأخير الفاصل
الحلقة الخامسة: الأسد وجنبلاط وجها لوجه… جدال ومواجهة
لم يمرّ اللقاء الأخير بين الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد وزعيم “الحركة الوطنية اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” كمال جنبلاط في مارس من عام 1976 في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، بسلاسة. إذ اصطدم الطرفان برؤيتين متناقضتين لمسار الأحداث في لبنان. وأبدى الأسد امتعاضه الشديد من إصرار جنبلاط على مواصلة الحرب ضد حزب “الكتائب” بهدف “تطهير لبنان من اليمين المسيحي”، فيما عبّر الأسد عن رفضه لهذا المسار، مؤكداً أن إلحاق الهزيمة الكاملة بالمسيحيين أمر “ممنوع” ولا بدّ من التراجع عنه فوراً.
بعد عودته إلى بيروت، عقد جنبلاط اجتماعاً مع حليفيه في “الحركة الوطنية”، جورج حاوي عن “الحزب الشيوعي” ومحسن إبراهيم من “منظمة العمل الشيوعي”. وروى لهما تفاصيل ما جرى معه في دمشق. بحسب رواية حاوي في مقابلة ضمن برنامج وثائقي عن الحرب اللبنانية: “حاول جنبلاط أن يبرهن أنه لم يسعَ إلى الصدام مع الأسد، بل بذل جهداً لتفادي الخلاف. وقد بذل حافظ الأسد على ما أعتقد كل ما أوتي من حكمة وحنكة وشجاعة لإقناع كمال جنبلاط بالعكس، وبذل كمال جنبلاط كل ما أوتي من حكمة وحنكة وكفاءة لإقناعه بالحسم”.
جدل الاستراتيجيات
قيل إن جنبلاط وافق على الاجتماع مع الأسد بعد أن أبلغه ياسر عرفات بأن الرئيس السوري موافق على الحسم العسكري، وبأن عليه (جنبلاط) الذهاب إلى دمشق لتحديد نوع المساعدة. وفي الوقت نفسه كان عرفات قد أبلغ وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام بأن جنبلاط موافق على وقف القتال، ويريد أن يعلنه من دمشق. بعد لقاء الأسد-جنبلاط بيوم واحد، في 28 مارس التقى عرفات بالأسد وكان يرافقه صلاح خلف (أبو إياد) ومحمود عباس (أبو مازن)، الرئيس الحالي للسلطة الوطنية الفلسطينية.
استمر الاجتماع بضعة ساعات، كان الأسد خلالها حاسماً حول مسألة وقف إطلاق النار في لبنان، محذراً من أن “سوريا لا تستطيع البقاء متفرجة، ولا يجوز أن يسيل الدم الفلسطيني أو اللبناني من أجل طموحات سياسية أو توريطات خارجية”.
وقال الأسد لعرفات: “على المقاومة أن تختار بين وقف القتال واستمرار تحالفها مع سوريا، وبين استمرار القتال واستمرار تحالفها مع كمال جنبلاط. بدوره، تعهّد عرفات بطلب وقف إطلاق النار من جنبلاط قائلاً: “سنقول له: لقد قاتلت من أجل حماية الثورة، وهي الآن بألف خير، لذلك نطلب منك قبول وقف إطلاق النار. وإذا رفض سنسحب قواتنا، وستصدر قيادة المقاومة بياناً حول ذلك”.
في التاسع والعشرين من شهر مارس 1976 اشتد القتال على جميع الأراضي اللبنانية وبدأت أفواج من المسيحيين بالمغادرة عبر مرفأ جونيه إلى قبرص، أو براً إلى سوريا
كيسنجر ينفي علاقة الولايات المتحدة بمناورات جنبلاط
وفي التاسع والعشرين من شهر مارس اشتد القتال على جميع الأراضي اللبنانية، وبدأت أفواج من المسيحيين بالمغادرة عبر مرفأ جونيه إلى قبرص، أو برا إلى سوريا. في صبيحة الأول من أبريل 1976، أبرق وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى الأسد نافياً “الكذبة الفاضحة والخبيثة” التي تقول إن الموفد الأميركي دين براون حثّ جنبلاط على مواصلة القتال. وقد جاء في برقية كيسنجر:
“لقد أعلمنا جلالة الملك حسين صباح اليوم أنه قيل للرئيس الأسد إننا نشجّع جنبلاط على مواصلة القتال في لبنان. نودّ أن نعلم الرئيس الأسد أن هذه كذبة خبيثة وقحة، هدفها في كل الاحتمالات بذر بذور الشقاق بين الولايات المتحدة وسوريا. وكما ذكر كل من الرئيس (جيرالد) فورد وبشكل قاطع لجلالة الملك حسين صباح اليوم، إننا نعمل بوضوح لتحقيق وقف إطلاق نار وحل وفق ما عبّر عنه الاقتراح السوري بتاريخ 22 يناير.
علاوة على ذلك، ينبغي أن يعلم الرئيس الأسد أن السفير براون لديه تعليمات دقيقة وحازمة بأن يكون قاطعاً بصورة مطلقة مع جنبلاط وغيره فيما يتعلّق بنيّة الولايات المتحدة الثابتة، بأن تتخذ كل خطوة عمليّة لتحقيق وقف إطلاق النار، وأن جنبلاط ومؤيديه هم الذين سيُعانون من العواقب إذا استمروا في مقاومة ذلك. ولا يمكن أيضاً أن يكون هناك أيّ شك في جهودنا المستمرة للمساعدة على تحقيق حلّ سياسي سريع متلائم مع المقترحات السورية في يناير وفق ما ذكرنا للرئيس الأسد. لدينا الثقة بأن الرئيس الأسد لن يُضلّل بمثل هذه المناورات الجنبلاطية.
أراد كسينجر أن يقول للأسد إن لدى براون تعليمات واضحة بالقول لجنبلاط ومؤيديه إنهم سيتحملون عواقب مقاومة صيغة الوثيقة الدستورية. إلا أن باتريك سيل في كتابه “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” يدّعي أن براون عبّر لجنبلاط عن تشاؤمه إزاء إمكانية التعايش بين المسلمين والمسيحيين في لبنان مستقبلاً، مما فسره جنبلاط على أنه دعوة أميركية إلى التقسيم وبالتالي استمرار الحرب.
إعلان القطيعة والغضب
في اليوم ذاته أصدرت القيادة السورية بياناً مطوّلاً تشرح فيه ملابسات الوساطة السورية في لبنان. وهاجمت المنحى الذي سار به جنبلاط، الذي كان قد بدأ بدوره في مهاجمة سوريا من خلال لقاءاته وعبر وسائل الإعلام. ومضى في طريقه باستكمال الخيار العسكري، وخلَفَ ياسر عرفات بتعهده عدم الوقوف مع جنبلاط، وتابع بالمناورة رغم تحذيرات الأسد.
بدأ الأسد بتكثيف اتصالاته مع شخصيات سياسية ذات خلفيات قومية وإسلامية ويسارية، وأراد تشكيل جبهة جديدة مضادة لجنبلاط، لضرب الحاضنة الشعبية التي استند إليها الزعيم الدرزي داخل الطيف الوطني اللبناني. ولم يتوقف الأمر عند التنسيق السياسي، بل أفاد كثيرون ممن التقوا الأسد بعد اللقاء الأخير مع جنبلاط، بأنه أبدى غضباً علنياً من مواقف الأخير، وراح يصفه بأوصاف تعكس حجم التوتر الذي خلّفه ذلك اللقاء.
كوّنت فكرة عن جنبلاط ربما لم تكن دقيقة.. كان يملك حرية أكثر من آخر مرة رأيته فيها، لأنه في الواقع كان يفتقر إلى أي منطق… ونحن لا نسير في شيء لا نقتنع به.
حافظ الأسد
صدمة اللقاء الأخير.. احترام تبدّد
بتاريخ 4 أبريل 1976 التقى الأسد بالسياسي الناصري كمال شاتيلا والنائب نجاح واكيم، وهما من السياسيين اللبنانيين الصاعدين آنذاك، وكان هذا اللقاء من جملة اللقاءات التي حاول الأسد من خلالها دراسة موقف جديد من القوى غير المحسوبة على اليمين أو اليسار، لا سيما القوى الصغيرة. إذ كان الأسد يحاول دعم هذه القوى وتقويتها بهدف تعويمها بعد خلافه مع جنبلاط، وقد طغى على اللقاء جو انتقادي هجومي حاد ضد جنبلاط. رأى الأسد في حديثه مع شاتيلا وواكيم أن كمال جنبلاط “شخصية سياسية متقلّبة بشكل يتجاوز المألوف حتى في الساحة اللبنانية”.
ارتبطت هذه النظرة عنده ليس فقط بتغير مواقف جنبلاط وتحالفاته بين القوى اللبنانية المتصارعة، بل أيضا بتبدّل خطابه حول قضايا أساسية كالقومية والهوية، وبحسب الأسد: “لم يتردد جنبلاط في التذكير بأصوله الكردية ومحاولة توظيف مسألة الأقليات لإبراز تمايزه السياسي”. بينما ظلّت نظرة سوريا، بحسب الأسد، قائمة على أن القومية العربية “تصهر فيها كل المكونات، وترفض أي نزعة انعزالية أو مطالبة كل أقلية بكيان مستقل”.
بدا من رواية الأسد أن اللقاء الأخير بينه وبين جنبلاط كان محطة فارقة، إذ قال: “لم يحصل بعمري كله أن صَغُرَ احترامي له كما حصل باللقاء الأخير”. كان هذا التعبير حاداً للغاية، يعكس خيبة أمل الأسد من جنبلاط، رغم تاريخه التقدمي. أشار الأسد إلى أن جنبلاط “تحدث عن القوات السورية أكثر مما تحدث الآخرون”، رغم أن دخول هذه القوات في ديسمبر 1975 كان دعماً لموقع جنبلاط ضمن الحركة الوطنية.
دافع الأسد عن قرار التدخل العسكري السوري في لبنان، موضحاً أنه قال لجنبلاط إن هدف دمشق كان إيقاف سفك الدماء، لا الانتقام. وقال بوضوح: “سوريا عندما دخلت إلى لبنان لم تذهب للانتقام، إنما لإيقاف القتل وإجبار الآخرين على عدم الاستمرار بالذبح والقتل”. وحمّل جنبلاط مسؤولية اختلال ميزان القوى بعد التدخل السوري، قائلاً إن سوريا توقعت أن تستفيد الحركة الوطنية من التغيير بالاتجاه الصحيح، غير أنها “ذهبت باتجاه آخر”.
وأخذ الأسد على جنبلاط لجوءه للتحالف مع قوى وشخصيات مثل إبراهيم قليلات، زعيم ميليشيا “المرابطون” الناصرية (السنية)، واستخدامه للشارع الإسلامي كورقة ضغط في صراعه السياسي. يصف الأسد هذه التحركات بأنها “متاجرات” لا تليق بقيادي يفترض به تجاوز الحسابات الضيقة، وشدّد على أن “المسلمين في لبنان لا يمكن إلا أن يكونوا مع سوريا”.
كما شدّد الأسد على أن التقدمية التي تبناها جنبلاط لم تُترجم عملياً إلى تجاوز للانقسامات أو ارتقاء فوق “العقد الطائفية والشخصية”، واعتبر أن الحركات السياسية، مهما اختلفت، ليست كيانات من “الخونة”، رافضاً توصيف خصوم جنبلاط أو حتى الكتائب بهذا المنطق.
شهادة الأسد
في 15 مايو 1976، وقبل أسبوعين من الإعلان الرسمي عن دخول القوات السورية إلى لبنان، التقى الأسد بوفد من حزب “الكتائب” ضمّ كريم بقرادوني وجورج سعادة، بحضور وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام. قدّم الأسد رؤية مركبة لطبيعة علاقته وتقييمه لكمال جنبلاط، مستعيداً تفاصيل لقائه الأخير به. وقال الأسد:
“حين جاء جنبلاط إلى هنا…في الحقيقة، لم نكن نرغب بمجيئه. نريده نعم، لكن نريده أن يأتي وقد انساق في الاتجاه الذي نسير فيه، نريد إيقاف القتال. تابعنا تصريحاته، وهناك تصريحات سيئة بالنسبة للقتال. أنا أعرف جنبلاط منذ زمن، ولكن كل لقاءاتي معه كانت بروتوكولية غالباً، حتى في السابق عندما كان يأتي بعد بدء القتال، كان يبدو في معظم الأحيان مستمعاً، ثم يستشير ويظهر أنه مع الرأي الذي يُقال. هكذا كان دائماً، ولهذا كوّنت عنه فكرة ربما لم تكن دقيقة. فيما مضى، كان يملك حرية أكثر من آخر مرة رأيته فيها؛ لأنه في الواقع كان يفتقر إلى أي منطق، إلى أبسط الحجج… ونحن لا نسير في شيء لا نقتنع به.
تظهر المحاضر الرئاسية أن اللقاء الأخير بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط كان نقطة تحول مفصلية في علاقة الرجلين، إذ أدى إلى التصادم والقطيعة الكاملة
ويبدو أن جنبلاط كان متعباً، مضطرباً، غير طبيعي بالفعل. قلت له أكثر من مرة: وضعك ليس طبيعياً، عليك أن ترتاح. قال لي كلاماً لا يُقال في الحقيقة، إما أنها مجموعة عُقد، أو أبعد من ذلك. وأصرّ على تلخيص الأمر بقوله: منذ أحد عشر شهراً، ونحن نسمع منكم: أعطونا أسبوعين، بمعنى أن اللقمة وصلت إلى الفم، دعونا والأمر سينتهي… قال نحن الآن في عينطورة ثم نصعد إلى ضهور الشوير، ومن الشوير ننزل إلى بكفيا ثم إلى الكحالة. قال لي إنه سيضع مدفع 130 ملم ويقصف جونية. تحدّث باستراتيجية: فقط دعونا ثم بعد ذلك نفعل ما تريدون. قلت له: بعد هذا لا نريد شيئا، وماذا سنفعل بعد ذلك ولماذا؟
قال: بعد ذلك تعالوا وافعلوا ما تريدون. فقلت له: نحن نريد هدفاً للعملية، ما تحدثت معي به حول السير من قرية إلى قرية وتذبح هؤلاء الناس… من هؤلاء الذين تذبحهم؟ لماذا نذبح على أساس طائفي؟ واضح لأنهم مسيحيون، هل هناك غير ذلك؟ أنت تعلم أننا في سوريا لا يمكن أن ننطلق من هذا المنطلق… أفهم أن ثورة تقوم ضد حكم، تقتل الوزراء والنواب، لكن بهذا الشكل؟! قرى وشعب… أمر لا يجوز، ما الثمن الذي سيقدَّم لشعب لبنان؟ حرب قذرة لها طابع طائفي، هذا أكثر شيء مزعج، أمر لا يمكن أن أتصوره”.
وبعد أن استعرض وقائع اللقاء أمام بقرادوني وسعادة، عبّر الأسد عن حجم الفجوة التي أحدثها موقف جنبلاط، قائلاً: “غريبة كانت نفسيته بالفعل… كانت جلسة قاسية، وأنا أيضاً شددت عليه حتى تعبت أعصابه، حتى شعرت: يا ترى، هل هو صراع بين شيء بنفسه يريد تحقيقه؟ رغبة شخصية مثلاً، بين موقفنا وبين مواقف آخرين أيضاً؟ في رأيي كمال جنبلاط، حتى يخسرنا بهذا الشكل يجب أن يكون هناك شيء كبير. أنا بالفعل أتصور نفسي مكانه، أعتقد أنه من أجل أن أخسر سوريا، وسوريا بوضعها الحالي، يجب أن يكون الأمر كبيراً جداً.
هكذا أتصور، وأنا كشخص في مكان كمال جنبلاط لي أهداف سياسية وحزب، ولي علاقات طويلة مع سوريا، فمن أجل أن أتخذ موقفاً أخسر به سوريا”. اختتم بوصف أجواء اللقاء:”مناقشتي معه كانت طويلة، ولم تكن مريحة. كانت متعبة جداً. تحدث لي عن فخر الدين وعن وحدة لبنان، وكرر ذلك عدة مرات، ربما هذه دروس سعيد عقل، والله أعلم”.
هل كان اللقاء الأخير سبب اغتيال جنبلاط؟
تظهر المحاضر الرئاسية أن اللقاء الأخير بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط كان نقطة تحول مفصلية في علاقة الرجلين، إذ أدى إلى التصادم والقطيعة الكاملة. ومن غير الممكن تجاهل أن التدخل الرسمي للجيش السوري في 1 يونيو 1976 جاء على خلفية هذا الصدام، على الرغم من أن المحاضر تؤكد وجود قوات وضباط سوريين في لبنان قبل هذا التاريخ بنحو ستة شهور، أي منذ نهاية عام 1975.
بعد أقل من عام على اللقاء الأخير، قُتل كمال جنبلاط على مقربة من حاجز للجيش السوري في منطقة الشوف. ورغم أن منفذي الجريمة استخدموا سيارة بلوحات عراقية، فلم يُقنع هذا الغطاء أحداً
لم يكن اللقاء الأخير هو السبب المباشر لاغتيال جنبلاط في 16 مارس 1977، إنما وضع اللبنة الأولى في قطيعة حاسمة استمرت حتى النهاية. لم يخفِ الأسد غضبه وسخطه على جنبلاط، وعبّر عن عدائه العلني له أمام كل من التقى به، ووجّه انتقاداته اللاذعة ضده كما اتخذ خطوات ميدانية واضحة لعزله سياسياً داخل لبنان.
وفي المقابل، صعّد جنبلاط منذ اليوم التالي للقائه الأخير بالأسد خطابه المعارض، مستهدفاً الأسد بشكل مباشر وشخصي. استعدى الأسد على أرض المعركة أولاً، وفي الصحافة، وفي لقاءاته ومداولاته السياسية المتعددة، ما عزز من حالة العداء وأغلق الباب أمام أي مصالحة. وعلى وقع هذا التصعيد، ظل الأسد يدفع بسياسة تهميش جنبلاط ومخاصمته، في حين لم يتردد جنبلاط في المجاهرة، بعدائه للنظام السوري.
بعد أقل من عام على اللقاء الأخير، قُتل كمال جنبلاط على مقربة من حاجز للجيش السوري في منطقة الشوف. ورغم أن منفذي الجريمة استخدموا سيارة بلوحات عراقية، فلم يُقنع هذا الغطاء أحداً، وظل السؤال الكبير: من قتل كمال جنبلاط؟ نَفَى النظام السوري مراراً أي مسؤولية عن الاغتيال، لكن تقارير عديدة اتهمت أجهزة المخابرات السورية بالوقوف خلف العملية، وتواترت الروايات عن تنفيذ الجريمة بأوامر من رفعت الأسد، مع العلم بأن مثل هذا العمل لا يمكن أن يمرّ دون علم حافظ الأسد أو دون إحاطته وأخذ موافقته عليه، نظراً إلى طبيعة النظام السوري.
في 4 مايو 2015 أدلى وليد جنبلاط بشهادته أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي كانت تحاكم المتهمين باغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، مشيراً إلى أن التحقيقات اللبنانية رجّحت تورط جهاز المخابرات السورية في مقتل أبيه، التي كانت يومها بقيادة العقيد إبراهيم حويجة، إلى جانب دور اللواء محمد الخولي، رئيس جهاز المخابرات الجوية.
وبعد ما يقارب نصف قرن، وفي الذكرى الثامنة والأربعين لاغتيال كمال جنبلاط عام 2025، أعلنت الحكومة السورية الجديدة، عقب سقوط نظام الأسدين، عن اعتقال إبراهيم حويجة، في خطوة اعتبرها كثيرون بداية لكشف حقيقة الجريمة النكراء التي هزّت لبنان والمنطقة لعقود.