كتل د. محمد بن صقر السلمي في صحيفة الشرق الأوسط.
في 28 أغسطس (آب) الماضي، فعَّلت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا (المعروفة اصطلاحاً بدول الترويكا الأوروبية) «آلية السناب باك»، أي (العودة التلقائية للعقوبات) المنصوص عليها في «خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA»، مستندةً إلى ما وصفته بـ«الإخلال الجسيم» من الجانب الإيراني. الجدير بالذكر هنا أنَّ الاتفاق النووي ينصُّ أن على أي طرفٍ مشاركٍ في الاتفاق رفع إخطار بعدم التزام إيران ببنود الاتفاق إلى مجلس الأمن الدولي، وخلال عشرة أيام على مجلس الأمن أن يصوت على قرار يبقي رفع العقوبات سارياً، وإلا فإنَّ جميع عقوبات الأمم المتحدة السابقة تُعاد تلقائياً خلال ثلاثين يوماً.
ثمة أغلبية واضحة، ثمانية أعضاء من أصل خمسة عشر عضواً في مجلس الأمن، تعارض مشروع القرار الروسي الداعي إلى تمديد غير مشروط لـ«آلية السناب باك»، لكن حتى في حال تردد هذه الأغلبية، فإن النتيجة تكاد تكون محسومة: أي «فيتو» من الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا كفيل بإسقاط القرار. هذا يعني أن إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران لم تعد سوى مسألة أسابيع، ما لم تُقدم طهران على تحول جذري يخص الشفافية في أنشطتها النووية، وتقبل بالمطلب الأميركي الأساسي: وقف التخصيب على الأراضي الإيرانية بوصفه شرطاً للعودة إلى المفاوضات. هذه الخطوة تُشكّل نقطةَ تحولٍ حاسمةٍ في مقاربة المجتمع الدولي للبرنامج النووي الإيراني، وقد تُغلق آخر قنوات الحوار بين إيران والغرب، بما قد يسرّع نحو سلسلة من التصعيدات الاقتصادية والعسكرية في المنطقة.
يعكس قرار الترويكا الأوروبية مدى إلحاحها وإحباطها من إيران في الوقت نفسه، فمع اقتراب انتهاء صلاحية «آلية السناب باك» في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، تقف أوروبا أمام احتمال فقدان إحدى آخر أدواتها القانونية لاحتواء البرنامج النووي الإيراني. لطالما ربطت دول الترويكا الأوروبية استمرار تعليق العقوبات الأممية بتقديم طهران تنازلات ملموسة: تعاون متجدد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وشفافية حقيقية بشأن أكثر من 400 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة، وتعهد غير مشروط بالعودة إلى المحادثات النووية مع واشنطن. لكن خلال اجتماع جنيف في 26 أغسطس الماضي، اكتفى المفاوضون الإيرانيون بوعود عامة من دون مقترحات ملموسة أو خريطة طريق واضحة. ومع نفاد الوقت وتمسك طهران باستراتيجيتها في الغموض الاستراتيجي، خلص الأوروبيون إلى أنه لا خيار أمامهم سوى الضغط على زر تفعيل «آلية السناب باك» أي إعادة فرض العقوبات من جديد.
تمثل هذه الآلية للأوروبيين إدارة ردع ورسالة تحذير في الوقت نفسه: وهي أن أوروبا لن تسمح لإيران بالمُضي قُدماً في برنامجها النووي من دون عواقب، وأنها ما زالت متمسكة بأهداف منع الانتشار النووي في إطار الاتفاق. لكن هذه الخطوة في المقابل تهدد بتقويض المصداقية الدبلوماسية لأوروبا، فروسيا والصين تعارضان تفعيل الآلية، ولن تلتزما على الأرجح بالعقوبات الأممية الجديدة، ما يهدد بتفكيك الإجماع الدولي الذي منح الاتفاق شرعيته الأولى. كما تخاطر الترويكا بالانجرار نحو استراتيجية «الضغوط القصوى» الأميركية على إيران، فتفقد هامش المناورة الدبلوماسية. ومن خلال التحرك قبل انتهاء بند «آلية السناب باك»، قد تحافظ أوروبا على نفوذها، لكنها تُسرّع أيضاً من المواجهة التي سعت لسنوات إلى تجنبها.
الرد الإيراني الداخلي يعكس انقساماً حاداً في سياسة الاتفاق النووي؛ صحف محافظة مثل «كيهان» و«جوان» عدّت أن القرار الأوروبي يثبت أن الدبلوماسية عقيمة، ودعت إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، وتقييد وصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واللجوء إلى أوراق ضغط قسرية مثل تهديد الملاحة في مضيق هرمز. على النقيض، وصفت صحيفة «شرق» الإصلاحية الوضع بـ«الساعة الرملية النووية»، محذّرةً من أن الآلية قد تسد الطريق أمام أي تسوية واقعية. أما وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي فحاول إبقاء قناة تواصل هشة مفتوحة، مقترحاً إمكانية العودة للتفاوض إذا التزمت واشنطن بعدم شن ضربات جديدة، وقدّمت تعويضات عن أضرار الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو (حزيران) الماضي، لكن مسار الدبلوماسية يتعارض مع الواقع والسياسة الداخلية في إيران، حيث يدفع «الحرس الثوري» باتجاه التحدي لا التنازل، إذ يرى أن الخطوة الأوروبية دليل على أن الغرب اختار المواجهة.
أما الشارع الإيراني، فأصبح ينظر بعيون مرهقة ومتشائمة؛ إذ عاش سنواتٍ من الوعود المنكوثة والعقوبات والتضخم، أنهكت كاهل المواطنين الذين لم يعودوا يثقون بقدرة الدبلوماسية على تحسين معيشتهم. ومع ارتفاع التضخم إلى ما يزيد على 50 في المائة، وهبوط الريال إلى أدنى مستوياته التاريخية، يشكك كثير من الإيرانيين في قدرة دبلوماسية حكومتهم على التوصل إلى تسوية نووية تخدم المصالح الاقتصادية للبلاد. وفي الوقت نفسه، تُفاقم المعاناة الاقتصادية المطالب الشعبية بالتغيير السياسي، تاركةً الحكومة في مأزق؛ إذ يرغب معظم الإيرانيين في تجنب عودة عقوبات الأمم المتحدة، لكن داخل النظام، يُطالب من يُصَفون بـ«المعتدلين» بضبط النفس، بينما يسعى «المتشددون» إلى مقاومة الضغوط وتصعيد التوترات، حتى مع وجود حقائق اقتصادية واضحة تُشير إلى ضرورة التوصل إلى تسوية.
اقتصادياً، تبدو مآلات عودة العقوبات كارثية؛ إذ توقعت غرفة التجارة الإيرانية سيناريوهات كارثية قد يرتفع فيها سعر الدولار إلى ما بين مليون و1650 ألف ريال، مما يرفع التضخم إلى 90 في المائة، ويدفع النمو الاقتصادي إلى الوراء. وستواجه صادرات النفط، المكبلة أصلاً بعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قيوداً عالمية متجددة، مما يحرم طهران من جزء من مصدر إيراداتها الرئيسي. ناهيك أن إعادة فرض حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة من شأنه أن يوقف جهود إيران لتوسيع صادراتها الدفاعية، خصوصاً الطائرات المسيّرة وأنظمة الصواريخ، في وقت أصبحت فيه هذه المبيعات مصدراً حيوياً لإيراداتها ونفوذها الجيوسياسي. وستتعثر المشاريع الاستثمارية والصناعية، وسترتفع معدلات البطالة، وستستمر احتياطيات النقد الأجنبي في التراجع. وقد يؤدي عدم الاستقرار الناتج عن ذلك إلى تقوية الفصائل «المتشددة» التي تدعو إلى التخلي عن المسار الدبلوماسي تماماً، بينما يُضعف «الإصلاحيين» الذين يُصرون على أن الحوار هو السبيل الوحيد للمُضي قُدماً.
عسكرياً، يزداد خطر التصعيد؛ إسرائيل، التي تردد منذ سنوات أنها لن تسمح لإيران ببلوغ عتبة السلاح النووي، ستجد في انهيار إطار الاتفاق وإعادة العقوبات الأممية ما يعزز حججها بتوجيه ضربة استباقية لأنها السبيل الوحيد لردع إيران النووية، حسب منظورها. وفي المقابل قد تلجأ طهران إلى الرد عبر أذرعها الإقليمية، أو عبر تهديد الملاحة في مضيق هرمز، ما يفتح الباب أمام احتمال وقوع خطأ في الحسابات يقود إلى مواجهة مباشرة.
ورغم كل ذلك، لم تمت الدبلوماسية بعد تماماً رغم هشاشتها؛ فقد أبدت إيران استعداداً مشروطاً للتفاوض، لا سيما إذا توافرت ضمانات أمنية، وتخفيف اقتصادي محدود. كما أبدت دول الترويكا وواشنطن حرصاً على تفادي انفلات الأمور نحو تصعيد لا يمكن احتواؤه مع إصرارهم على تحميل إيران مسؤولية أفعالها. وهنا تبرز الحاجة إلى دور وسطاء محايدين، مثل بعض دول الخليج أو سويسرا، الذين يتمتعون بقنوات تواصل مفتوحة مع طهران والعواصم الغربية. وحتى العمل على اتفاقات جزئية، مثل تجميد التخصيب مقابل إعفاءات جزئية لصادرات النفط أو تعزيز التجارة الإنسانية، قد يكسب الأطراف وقتاً، ويقلل احتمالات انفجار الوضح نحو أزمة وشيكة.
لكن على دول الترويكا أن توضح أن «آلية السناب باك» لا تعني إغلاق باب الدبلوماسية نهائياً، بل يمكن تعليق العقوبات إذا التزمت إيران التزاماً قابلاً للتحقق بواجباتها. وفي المقابل، على طهران أن تدرك أن التصعيد، سواء بتهديد الملاحة أو رفع التخصيب لما فوق 20 في المائة، لن يجلب إلا تشدد لحمة خصومها في وجهها، وإغلاق أي نافذة محتملة لتخفيف العقوبات.
يعد تفعيل «آلية السناب باك» أخطر أزمة تواجه الاتفاق النووي منذ انسحاب الولايات المتحدة عام 2018، فهو يضع جميع الأطراف أمام خيار صارم: إيران، إما أن تنخرط تكتيكياً لتخفف من الضغوط الاقتصادية، وإما أن تلجأ لخيار التصعيد الذي سيجلب عواقب مدمرة. أما بالنسبة لدول الترويكا، فيُؤكد هذا القرار عزمها على الحفاظ على نظام حظر الانتشار النووي، وقدرتها المحدودة على التوسط بين واشنطن وطهران. أما بالنسبة للمجتمع الدولي الأوسع، فستُحدد الأسابيع المقبلة ما إذا كان الملف النووي سيبقى ضمن نطاق الدبلوماسية أم سيتجه حتماً نحو المواجهة.
تُمثل الأسابيع التي تسبق 27 سبتمبر (أيلول) الحالي، وهو الموعد المرجح لعودة عقوبات الأمم المتحدة حيز التنفيذ، الفرصة الحقيقية الأخيرة للدبلوماسية. إذا عادت العقوبات من دون جهد متزامن للحوار، فقد ينزلق الشرق الأوسط إلى دوامة جديدة من المواجهة، ذات عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي. الخيار ليس بين العقوبات والدبلوماسية فحسب، بل بين المفاوضات الهشة والصراع المفتوح. الوقت ينفد، وتكلفة التقاعس قد تكون كارثية.