كشفت دراسة حديثة، أن التقاعس عن مواجهة آثار تغير المناخ، يدفع ثمنه البشر من أرواحهم وصحتهم ومعيشتهم، مشيرة إلى أن ما وصفته بـ”فشل الحكومات في الحد من الاحترار العالمي”، أدّى إلى ارتفاع معدل الوفيات المرتبطة بالحرارة بنسبة 23% منذ تسعينيات القرن الماضي، ليصل إلى 546 ألف وفاة سنوياً.
وفي عام 2024، تسبب تلوث الهواء الناتج عن حرائق الغابات في 154 ألف وفاة، بزيادة 36% عن متوسط العقد الأول من الألفية الثالثة، فيما ارتفعت إمكانية انتقال فيروس حمى الضنك عالمياً بنسبة تصل إلى 49% مقارنة بالمعدلات في خمسينيات القرن الماضي.
وأوضح التقرير، أن تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الأحفوري لا يزال مسؤولاً عن وفاة 2.5 مليون شخص سنوياً، فيما تواصل الحكومات إنفاق المليارات على دعم هذا القطاع.
وفي عام 2023، أنفقت الحكومات نحو 956 مليار دولار على مواجهة آثار الوقود الأحفوري، بينما تواصل شركات النفط والغاز توسيع خطط إنتاجها إلى مستويات تفوق ما يمكن أن يتحمله كوكب قابل للحياة بثلاث مرات.
واعتبر التقرير، المنشور في دورية The lancet العلمية، أن هذا “التقاعس السياسي” لا يعني فقط تدهور المناخ، بل معاناة إنسانية هائلة، فدرجات الحرارة المرتفعة، وحرائق الغابات، والأعاصير، والجفاف تدمر حياة الملايين سنوياً، ومع ذلك، تظهر البيانات أن بعض التحركات الفعلية بدأت تؤتي ثمارها، إذ يقدر أن الابتعاد عن الفحم واستخدام مصادر الطاقة النظيفة، أنقذ حياة نحو 160 ألف شخص سنوياً، خلال العقد الماضي، كما وصلت الطاقة المتجددة إلى مستويات إنتاج قياسية.
كشفت تقرير The lancet، عن أن عدد المؤشرات المناخية المرتبطة بالصحة، والتي تأثرت سلباً، بلغ 12 من أصل 20 مؤشراً.
والمؤشرات المناخية المرتبطة بالصحة هي مجموعة من العوامل البيئية التي تتأثر بتغير المناخ، وتنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على صحة الإنسان، ومنها مؤشرات درجة الحرارة، والرطوبة، ونوعية الهواء، وهطول الأمطار، والظواهر الجوية المتطرفة مثل موجات الحر والعواصف والفيضانات والجفاف.
وتعتبر هذه العناصر، إنذارات مبكرة، إذ يمكن من خلالها تقييم المخاطر الصحية المحتملة مثل زيادة أمراض الجهاز التنفسي نتيجة تلوث الهواء، وارتفاع حالات الإجهاد الحراري وأمراض القلب في موجات الحر، وانتشار الأمراض المنقولة عبر المياه أو الحشرات مثل الملاريا وحمى الضنك مع تغير أنماط الأمطار والحرارة.
وتساعد هذه المؤشرات في وضع سياسات للتكيف الصحي مع المناخ، من خلال رصد التغيرات البيئية وتوجيه أنظمة الإنذار المبكر والاستجابة الطبية في المناطق الأكثر عرضة للخطر.
زيادات قياسية في الوفيات وخسائر اقتصادية ضخمة
وبين التقرير، الذي شارك في إعداده 128 خبيراً من 71 مؤسسة أكاديمية ووكالة تابعة لهيئة الأمم المتحدة، أن عام 2024 كان العام الأشد حرارة في التاريخ المسجل، ما ترك عواقب كارثية على صحة الناس وأرزاقهم.
واكد التقرير، ارتفاع معدلات الوفيات الناتجة عن الحرارة، بنسبة 23% لكل 1000 شخص منذ تسعينيات القرن الماضي، كما تسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في تأجيج حرائق الغابات التي أدت إلى ارتفاع تلوث الهواء.
وكشف أن موجات الجفاف والحر الشديد تسببت في زيادة المعاناة من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، وبلغ عدد ضحايا أزمة الأمن الغذائي 123 مليون شخص في عام 2023، مقارنة بمتوسط الأعوام بين 1981 و2010، كما أن بطء التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، جعل أكثر من 2 مليار إنسان يعتمدون على وقود ملوث داخل منازلهم، وفي 65 دولة تعاني ضعف الوصول إلى الطاقة النظيفة، تسببت ملوثات الهواء المنزلية في 2.3 مليون وفاة كان يمكن تجنبها في عام 2022.
وبين التقرير أن آثار تغير المناخ لا تقتصر على صحة الإنسان، بل تمتد لتقويض الاقتصاد العالمي. ففي عام 2024، تسبب التعرض للحرارة في خسارة 639 مليار ساعة عمل محتملة، بما يعادل خسائر في الدخل تصل إلى 1.09 تريليون دولار، أي ما يقارب 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبلغت تكلفة الوفيات المرتبطة بالحرارة بين كبار السن 261 مليار دولار.
ولم تتجاوز الأموال المخصصة لدعم الدول الأكثر ضعفاً أمام تغير المناخ، 300 مليار دولار سنوياً، وفق تعهدات مؤتمر الأمم المتحدة COP29، كما أن 15 دولة من أصل 87 مسؤولة عن 93% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، أنفقت على دعم الوقود الأحفوري أكثر مما أنفقت على ميزانياتها الصحية في عام 2023.
في السياق ذاته أفاد تقرير آخر، بأن منطقة أميركا اللاتينية، تعاني من مخاطر مناخية تتفاقم وتتقاطع بشكل خطير، مشيراً إلى أن تأخر جهود التكيف يزيد الأضرار الصحية الناتجة عن تغير المناخ، وأن نقص التمويل المخصص للتكيف يمثل عائقاً رئيسياً.
وحذر التقرير من أن التراجع السياسي عن الالتزامات المناخية يضاعف التهديدات للصحة والحياة، إذ تتراجع بعض الحكومات عن تعهداتها، وتستغل الشركات الكبرى في قطاع الوقود الأحفوري الانقسام السياسي لتحقيق مكاسب جديدة، إذ أظهرت البيانات أن أكبر 100 شركة في هذا القطاع زادت إنتاجها المتوقع حتى عام 2040 إلى مستوى يجعل انبعاثاتها تتجاوز الحد المقبول لتحقيق هدف 1.5 درجة مئوية بثلاثة أضعاف.
وأكد التقرير، أن هذا التوسع المدفوع بالربح يهدد بتقويض جميع جهود التكيف الصحي، ويجعل الوصول إلى مستقبل آمن صحياً أمراً شبه مستحيل، كما كشفت البيانات أن أكبر 40 بنكاً خاصاً حول العالم ضخت 611 مليار دولار في عام 2024 في تمويل مشروعات الوقود الأحفوري، بزيادة 29% عن العام الماضي، متجاوزة استثماراتها في الطاقة الخضراء بنسبة 15%.
وأظهرت الدراسة، أن هذه السياسات لا تضر بالصحة فحسب، بل تهدد استقرار الاقتصادات الوطنية، ففي عام 2023، دمر أكثر من 128 مليون هكتار من الغابات، بزيادة 24% عن العام الماضي، ما قلل من قدرة الكوكب الطبيعية على امتصاص الكربون.
وأظهر التقرير، أن بعض المدن والمؤسسات والمجتمعات بدأت تقود التغيير من الأسفل إلى الأعلى، موضحاً أن 834 من أصل 858 مدينة حول العالم أجرت أو تخطط لإجراء تقييمات لمخاطر تغير المناخ، بحسب قاعدة بيانات CDP العالمية.
وشدد التقرير على أن “الانتقال العادل نحو مستقبل صحي ومستدام يتطلب تضافر جميع الجهود، من الأفراد إلى المؤسسات، ومن المدن إلى الدول، فالوقت لم يعد في صالح البشرية، وكل يوم تأخير يعني إزهاق أرواح جديدة”.

