أ.د. ماريز يونس
حين تنتهي من قراءة “بنت الأصول” لجورج معلولي، لا تخرج منها كما دخلت. فهي
ليست مجرد رواية عن فتاة مجهولة النسب تُدعى ناديا، بل صدمة أدبية – اجتماعية
تضع القارئ في مواجهة مرآته الأخلاقية، وتعيد طرح سؤال شديد القسوة: من نَصَّب
قاضيًا أعلى للأخلاق، ومن منحه هذا الحق لجلد الضعفاء؟ ناديا، في سردها، ليست شخصية روائية بقدر ما هي نموذج
حيّ لكل من سقط عليه عنف الوصمة، وعاش حياة كاملة يدافع فيها عن حقه في الوجود، لا لأنه اقترف ذنبًا، بل لأنه وُلد خارج
“الشرعية” التي قررها الآخرون.
يحضر بقوة في هذه الرواية مفهوم “الوصمة” كما صاغه إرفينغ غوفمان، الذي اعتبر
أن المجتمع يُنتج الهويات المرفوضة عبر تصنيف الأفراد بناءً على صفات يعتبرها غير
مقبولة أو مشينة، ثم يعيد إنتاج هذا الرفض اجتماعيًا ونفسيًا. ناديا في “بنت الأصول”
تعيش هذا الجرح من لحظة إدراكها لاختلافها البيولوجي، حين وُصفت
بأنها “بنت حرام”. هذه العبارة، في ظاهرها حكم أخلاقي، لكنها في جوهرها إعلان عن طرد رمزي من
دائرة الانتماء، وفرض هوية مشروخة عليها طوال حياتها.
الوصمة هنا ليست سلوكًا فرديًا، بل نظامًا متكاملًا من التصورات والممارسات. المجتمع
لا يعاقب ناديا لأنها سيئة، بل لأنها لا تناسب نموذج النقاء الذي يريد أن يراه في المرأة،
تحديدًا في جسدها، وفي نسبها، وفي صمتها. فالنظام الاجتماعي القائم على “المعايير
المقبولة للهوية”، يُخضع الفرد ويعاقبه إذا لم ينطبق عليه النموذج. وهكذا، تجد ناديا
نفسها محاصرة بين نظرة المجتمع وبين حاجتها لأن تحيا ببساطة دون تفسير دائم
لوجودها.
الرواية تُبرز التناقض الصارخ بين ما يُقال عن الشرف وما يُمارس باسمه. ناديا تتعرض
للاستغلال، وللإقصاء من أفراد ينتمون إلى ذات المجتمع الذي يتغنى بالشرف، بينما
يتغاضى عن جرائم حقيقية ترتكبها ذات السلطة الأخلاقية المزعومة. هذا ما تسميه نانسي
فريزر بـ “الازدواجية المؤسساتية”، حيث يتم استخدام قيم كالكرامة والعفة لقمع فئات
معينة، في حين يُعفى أصحاب النفوذ من أي محاسبة.
اللافت أن الوصمة هنا لا تأتي فقط من الخارج. الرواية تُظهر كيف يمكن للإنسان أن
يتحول إلى جلاد ذاته. ناديا لا تكتفي بالشعور بالخزي، بل تبدأ في محاسبة نفسها، في
جلدها الداخلي، في محاولاتها المستمرة لإثبات أنها تستحق الحياة. هذا ما يسميه ميشيل
فوكو بـ “الرقابة الذاتية”، حيث تتحول القيم الاجتماعية إلى جهاز مراقبة داخلي يدفع
الفرد إلى تقنين ذاته، ولجم طموحه، وخنق رغبته.
القسوة التي تعرضت لها ناديا، من المحيطين بها، تكشف كيف يمكن للمجتمع أن يصنع
قبحه في أبسط تفاصيله اليومية. عبارة مثل “يلعن الساعة اللي جبناك من الميتم”، لا تأتي
فقط من عاطفة مضطربة، بل من بنية ثقافية ترى في الطفل المتبنّى مشروع نقص، لا
مشروع إنسان. إنها الثقافة التي تشترط الولادة في حضن شرعي كي تمنح الكرامة،
والتي ترى الحب المشروط أفضل من العدل المطلق.
تكشف الرواية عن سيكولوجيا متناقضة: الأهل يحبون ناديا، لكنهم في لحظة انفعال أو
حرج اجتماعي يُسقطون عليها كل عقدهم. إنها ليست فقط ضحية جهل المجتمع، بل
ضحية هشاشة الحب الذي يُشترط له صك شرعي. وهنا يتجلى العنف الرمزي الذي
تحدث عنه بيار بورديو، كممارسة اجتماعية لا تقتصر على القمع والتسلط فحسب، بل
تتسلل عبر اللغة، والنظرة، والصمت، والاتهام غير المباشر.
لكن ما يجعل من ناديا إنسانة مختلفة، و”بنت أصول” بتعبير الكاتب، أنها رغم كل هذا
لم تستسلم للهوية التي فُرضت عليها. بل طرحت سؤالًا شديد العمق: هل الأصل
هو الدم، أم القيم؟ هل الانتماء يأتي من النسب، أم من الطريقة التي نحيا بها؟ ناديا لا
تحاول الانتماء إلى المجتمع عبر الاعتذار، بل عبر إعادة تعريف الشرف نفسه، من خلال
تعرية المجتمع وإعادة الاعتبار للقيم والمعنى.
القصة لا تحاكي الضحية فقط، بل تكشف زيف البطولة الاجتماعية. تُظهر كيف يمكن
للمجتمع أن يرفع شعارات العدل على منصات الولاءات والانتماءات الطائفية، لكنه لا
يملك عدالة لناديا. هذا هو التناقض الذي يُحيل القيم إلى أدوات سلطوية، والشرف إلى فخ
يُنصب للضعفاء فقط.
الرواية لا تطلب الشفقة على ناديا. فهي ليست باحثة عن الاحتضان، بل عن الحقيقة. هي
لا تبكي كي تُحتضن، بل تصرخ كي تُسمع. ومن هذه النقطة، يصبح الأدب فعل مقاومة،
ويصبح السرد طريقًا إلى إعادة كتابة المعايير.
حين تضع الكتاب جانبًا، تدرك أن “بنت الأصول” ليست فقط رواية عن فتاة لبنانية، بل
وثيقة عن كل امرأة قيل لها يومًا إنها “ناقصة شرف”، عن كل طفل دُفع إلى حافة الحياة
لأنه لا يملك “نسبًا”، عن كل شخص طُرد من دوائر المجتمع لأنه لم يكن ابنًا للنموذج.
الرواية لا تطرح في جوهرها سؤالًا أدبيًا، بل سؤالًا أبعد من لبنان، وأقسى من الميتم: من يقرر من نكون؟
وهل يمكن أن ننجو بذاتنا حين تُصبح الهويات عبئًا لا نملك التخلص منه، والنجاة مشروعًا
فرديًا محفوفًا بالخذلان؟ ناديا ليست فقط بطلة، بل هي مرايا ممزقة نحملها كلنا، ونخاف
النظر فيها. إنها تُعري كل تلك اللحظات التي انحزنا فيها للعرف بدلًا من العدل، والتي
صمتنا فيها أمام إهانة لأننا لم نكن نحن المستهدفين. إنها تضعنا أمام مسؤولية إعادة
تعريف من نحن، وكيف نمنح القيمة، ولمن. وفي هذا، ربما، تبدأ أولى خطوات التحرر
من مجتمعات نمت على جلد الضحية، وارتاحت في حضن الوصمة وبنت شرعيتها
بتمجيد الجلاد.