في ديوانها الجديد “نساء على باب القصيدة”، الصادر عن منشورات البادية في العراق (2024)، تضع الشاعرة العراقية المقيمة في إسبانيا باهرة عبد اللطيف، النساء في صدارة القصيدة، وتواصل عبر الشعر والترجمة والبحث، تقديم خطاب إنساني حساس، وأنوثة ممزقة بالذاكرة والمنفى.
الشاعرة هي مترجمة وساردة وأكاديمية من مواليد بغداد 1957، تقيم في إسبانيا منذ 30 سنة، وتعدّ من أبرز الأصوات الثقافية العراقية في المنفى. ترجمت عشرات الأعمال من الإسبانية إلى العربية، وتخصّصت أكاديمياً في أدب بورخيس والدراسات النسوية.
تتمركز قصائد الشاعرة حول المرأة، لا كرمز، بل كوجود حيّ مثقل بالعنف والتهميش في الوطن والشتات. فيما يحضر الموت كثيمة موازية للإنسان المسحوق، لا سيما في جغرافيات الألم الممتد من العراق إلى فلسطين وغيرها.
تصف عبد اللطيف قصائد هذا الديوان بأنها مرايا لنساء مررن في حياتها، أخوات وصديقات ومناضلات، وجدت الشاعرة نفسها موزعة بينهن، وكأنها تكتب سيرتها الذاتية المتشظّية من خلالهن.
“الشرق” حاورت الشاعرة العراقية حول ديوانها وعلاقتها بالترجمة، ونشاطها الثقافي في إسبانيا.
بعد إصدارك الأخير “نساء على باب القصيدة” هل ما تزالين تشعرين ببهجة الكاتب تجاه جديده، أم أن هذه البهجة تتلاشى مع تعدد الإصدارات؟
أصبحت البهجة، في خضم ما نعيشه من أحزان عامة، لحظة خاطفة لا تدوم. ما أشعر به بعد صدور كتاب جديد ليس بهجة بل شيء من الرضا والتخفّف، كأني أزيح عن كاهلي عبء مخطوطات، تراكمت في حاسوبي بين الترجمة والكتابة.
لا يشغلني عدد الكتب ولا أسعى للترويج لما أكتب، بل لا أعود وأتصفح كتبي، خشية أن أجد فيها ما لا يرضيني. ليس هذا زهداً فحسب، بل إحساس عميق بالزوال، كما عبّر عنه الشاعر سامي مهدي في ديوانه “الزوال”، وهو أحد الكتب القليلة التي رافقتني حين غادرت العراق.
ربما لهذا الشعور صلة بحقيقة أني مثل الكثير من العراقيين، نجوت من الموت أكثر من مرّة. لذا فكل ما أكتبه هو هدية من الحياة، وأسمى البهجات أن أعيش يوماً آخر برفقة من أحب.
الديوان يستند إلى ثيمة النساء، كيف يعكس مضمون المجموعة الشعرية ذلك؟
“نساء على باب القصيدة” مجموعة نصوص شعرية كتبتها على مدى أعوام، حول تفاصيل وأحاسيس نساء قريبات من روحي وعقلي، تجمعني بهن مشتركات قيمية كثيرة. لذا صدّرت الكتاب بجملة “إلى مرايا الروح: شقيقاتي وصديقاتي”، وأهديتها إليهن، وإليّ إيضاً لأني خصّصت الجزء الأخير منها لنفسي، في محاولة لرصد صوتي الداخلي وأصوات الآخرين.
تحدثت عن الأم والأخت، وعن صديقة الطفولة، وعن نساء مغدورات لا أعرفهن لكني أتعاطف وأتماهى معهن بوصفهن ضحايا لشتى أنواع العنف: السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
تقيمين في إسبانيا منذ 30 عاماً وتنشطين في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، هل انعكست تجربتك الشخصية على شِعرك؟
منذ يفاعتي وأنا منحازة للنساء، لإيماني العميق بأنهن الفئة الأكثر تهميشاً في مجتمعاتنا العربية. وحين انتقلت إلى إسبانيا، وجدت في تجربة النساء الإسبانيات مدرسة حقيقية للنضال؛ فقد خضن مسيرة طويلة وصعبة لنيل حقوقهن، في ظل إرث ثقيل من التقاليد الذكورية، والسلطة الكنسية التي مارست القمع باسم المقدس، إلى جانب إرث سياسي قمعي دام أربعين عاماً في ظل حكم الديكتاتور فرانكو. حتى أبسط الحقوق، كفتح حساب بنكي، كانت تتطلب في سبعينيات القرن الماضي موافقة وليّ الأمر.
انخرطت في جمعيات نسوية عدّة، وتعرّفت إلى مختلف التيارات من المتطرفات إلى المعتدلات، من العلمانيات إلى المؤمنات، وفهمت منهن شكلاً من أشكال النضال. لم أتبع أي نهج جاهز، بل سعيت إلى ما ينسجم مع قناعاتي وجذوري الثقافية: المساواة القائمة على الاعتراف بالاختلاف الطبيعي بين الجنسين، لا تفوّق أحدهما، بل تكاملهما.
بهذه الرؤية كتبت نثراً وشعراً، وألقيت عشرات المحاضرات، خصوصاً عن واقع النساء العربيات والمسلمات في الغرب، واللاتي يعشن في كثير من الأحيان وضعاً معقداً كضحايا للعنصرية والإسلاموفوبيا من جهة، وللذكورية المتأصلة من جهة أخرى، وهي آفة لا ينجو منها الغرب أيضاً.
ما هو تأثير تخصّصك في الأدب الإسباني ومزاولتك الترجمة على تجربتك الإبداعية في الكتابة؟
درست الأدبين الإسباني والأميركي اللاتيني، ودرّستهما في العراق وإسبانيا، كما درست الترجمة التحريرية والفورية، ودرّستهما لسنوات طويلة في الجامعات الإسبانية. الترجمة بالنسبة لي ليست مهنة فحسب، بل عالم فسيح، معقّد، ومتشابك، مليء بالمفاجآت، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بترجمة الأعمال الأدبية؛ فقد منحتني هذه التجربة جوائز أسعدتني وأشعرتني بمسؤولية الكلمة.
أثّرت الترجمة الأدبية في أسلوبي الكتابي تأثيراً مباشراً، إذ فتحت لي أبواباً على أساليب تعبيرية جديدة من خلال الإسبانية والإنجليزية، فضلاً عن لغات أقرأ بها ولا أترجم عنها. وساعدني الأدب الإسباني والأميركي اللاتيني، بما فيه من تنوّع وغنى، على تطوير أدواتي الإبداعية وتعزيز متعتي الروحية، شعرياً وسردياً.
قراءة الشعر بعدة لغات وسّعت رؤيتي للإنسان والعالم، وأغنت تجربتي الفنية. وربما أهم ما تعلّمته من هذه الرحلة الطويلة، وتحديداً من معايشتي لأدب بورخس لعشرات السنين، هو قيمة الاختزال، وأهمية أن تكون اللغة أداة للفكرة، لا غاية في ذاتها.
قرأت أعمال بورخس كلها، وعشرات الكتب والدراسات النقدية عنه، وكان تأثيره عليّ جوهرياً، لا سيما في ما يتعلق بجماليات التكثيف ودقّة المعنى.
كيف تنظرين إلى العلاقة بين الترجمة والإبداع الأدبي، وخصوصاً بالنسبة للمترجمين الذين هم أيضاً شعراء؟
الترجمة في جوهرها، شكل من أشكال الإبداع الأدبي، ومهمة شاقّة تتضاعف صعوبتها حين تكون ترجمةً للشعر. فهي لا تقتصر على نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل تسعى إلى إعادة خلق النص شعرياً، محافظة على صوره واستعاراته ورموزه وإيقاعه الداخلي، لتقدّمه في اللغة الهدف بكل حمولاته الجمالية. هي كتابة موازية بلغة أخرى، لكنها مشبعة بحساسية الشاعر الأصلي ومشاعره. فهل ثمّة ما هو أعقد من هذا التمرين الإبداعي المزدوج؟
وتزداد العلاقة بين المترجم الشاعر والنص الأجنبي تعقيداً، لأنها تنطوي على بُعدين متداخلين، إيجابي وسلبي. في جانبها الإيجابي، تفتح الترجمة أمام الشاعر آفاقاً جديدة، وتتيح له الاحتكاك بأساليب وصور وفضاءات مغايرة، تُغني قاموسه الشعري وتعمّق مشاعره الإنسانية. ولنا في تجربة الراحل جبرا إبراهيم جبرا مثال جليّ، فقد نقل إلى العربية شعر إليوت وبليك وباوند وأودن، وأسهم في إشاعة الذائقة الحداثية في المشهدين الثقافيَين العراقي والعربي.
أما الجانب السلبي، فيبرز حين يذوب صوت المترجم الشاعر في صوت الشاعر الأجنبي، أو بالعكس، حين تُطمس هوية الشاعر الأصل وتُفرض عليه بصمة المترجم، فتضيع المسافة بين الصوتين، وتختلّ معادلة الترجمة بوصفها جسراً لا مرآة.
بصفتكِ رئيسة مجلس أمناء المنتدى العالمي للغة العربية (FOMLAR) في إسبانيا، كيف تقيّمين تأثير الثقافة العربية وهل هناك تبادل ثقافي ملموس بين اللغتين؟
تأثير اللغة والثقافة العربية في اللغة والأدب الإسباني، وحتى في بعض مظاهر الحياة الاجتماعية، كبير وواضح، ولا ينكره سوى قلّة من الإسبان ممن تحجّروا عند مرحلة تاريخية ماضية. والمهم هو وجود حركة استعراب إسبانية جادّة منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم، باتت معالمها مميّزة في عالمي الاستعراب والاستشراق العالميين.
عملنا التطوّعي في المنتدى العالمي للغة العربية -أسّسته في إسبانيا– يطمح لأن يكون جسراً ثقافياً بين المثقفين والأكاديميين العرب من جهة، وبين نظرائهم من المستعربين والمستشرقين الإسبان والغربيين والهنود والأفارقة من جهة أخرى.
المنابر العربية قليلة في إسبانيا، ومنتدانا يضمّ نحو 400 عضو من القامات الأكاديمية والثقافية من العرب والأجانب، ويسعى ليكون همزة وصل بين الجميع.
ما زلنا في البداية، ولدينا أفكار ومشروعات كثيرة نسعى لتنفيذها بتأنٍ، وقمنا بأنشطة مهمة، وبات للمنتدى حضور ملموس من خلال تنظيم الندوات والمشاركة في المؤتمرات. كما أننا حالياً نهيّئ سلسلة من الكتب لإصدارها عن المنتدى. ونعقد اتفاقيات شراكة مع الهيئات الأكاديمية والثقافية للاستفادة من الأعضاء في مشروعات التأليف والترجمة.