كتب هاني سالم مسهور في صحيفة العرب.
إذا كانت الفكرة في حاجة إلى زخم وزخمها في حاجة إلى شخصية فإن الشخصية التي تستحق أن تُذكر اليوم هي الشيخ محمد بن زايد الذي أصبح محفزا للعقل السياسي العربي.
الذين قرأوا جيدا لقاء الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود عام 1945 على متن الطراد “كوينسي”، يدركون أن تلك اللحظة لم تكن مجرد تواصل دبلوماسي، بل كانت لحظة ترسيم طويل الأمد لعلاقة تقوم على مبدأ النفط مقابل الأمن، ومنذ ذلك اللقاء لم تتبدل المعادلة كثيرا، بل فقط تعاقبت الأسماء والوجوه، فيما بقي الجوهر قائما، النفط هو ما يربط الخليج العربي بأميركا، والسلاح هو ما تبيعه واشنطن للمنطقة ضمانا لاستمرار معادلة النفوذ. لكن زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى الخليج العربي، في نسختها الجديدة، لا يمكن قراءتها فقط بمنظور التجارة والصفقات، بل بوصفها إعادة تموضع لا تقل رمزية عمّا فعله روزفلت، لكنها تحمل هذه المرة نفسا انتخابيا صريحا، وأجندة تتجاوز النفط والسلاح إلى المال الرقمي والمصالح والتحالفات الهجينة التي تجمع المستثمرين بالرؤساء.
في المقابل، يغيب المشروع العربي الكبير، فمنذ أن غادر جمال عبدالناصر المشهد، لم يعد هناك تعريف واضح للأمن القومي العربي. صحيح أن ناصر كان زعيما مثيرا للجدل، لكنه كان صريحا في بناء مفهوم لهذا الأمن وربطه بجغرافيا تمتد من السويس إلى عدن، بمعادلة قائمة على فكرة بسيطة أن السيادة لا تكتمل من دون قدرة على حماية القرار من التدخل الخارجي، وتحديد العدوّ من الداخل قبل الخارج. العدوان الثلاثي عام 1956 لم يكن حربا تقليدية فحسب، بل كان لحظة كشف لمدى عجز النظام الدولي عن فهم طموح الشعوب العربية، وكان ناصر مدركا أن استعادة قناة السويس ليست فقط انتصارا على الاحتلال، بل على نمط التفكير الغربي الذي يريد العرب مجرد أدوات في لعبة النفوذ.
لكن السياق العربي الراهن في لحظة زيارة ترامب لا يحمل هذا الوضوح، فالدول الخليجية تتقدم بمشاريع اقتصادية هائلة وتتحرك بثقة على مسرح السياسة الدولية، لكن النسيج العربي ككل يبدو مفككا ويفتقر إلى رؤية موحدة أو تعريف مشترك للأمن القومي. نحن في لحظة نادرة تسمح لنا بإعادة طرح هذا السؤال القديم، ما هو الأمن القومي العربي؟ وهل يمكن فصله عن الأمن الوطني لكل دولة؟ وهل يجوز أن تُصاغ الإستراتيجيات الأمنية وكأن كل دولة جزيرة مستقلة، فيما العدوّ يتمدد شبكيا من بغداد إلى صنعاء إلى طرابلس إلى الضفة الغربية؟ لا أمن وطنيا في العالم العربي من دون تعريف جامع للأمن القومي، وما لم تُحدّد القاهرة والرياض وأبوظبي والدوحة وبغداد وعمّان موقفا واضحا من جماعات الإسلام السياسي ومن تدخلات إيران ومن فوضى ليبيا ومن تهديدات البحر الأحمر، فسنظل نحارب على جبهات منفصلة ونُهزم على جبهة واحدة.
الذكاء الاصطناعي لا يبنى فقط بالبنية الرقمية بل بالبنية المفاهيمية، والمفاهيم لا تولد في الفراغ، بل تحتاج إلى إطار أمني ثقافي سياسي محكم. نحن لسنا في حاجة إلى استيراد تعريفات جاهزة للأمن، بل إلى بناء تعريف خاص بنا، يستند إلى تجربتنا الممتدة ويدرك تعقيد المنطقة وترابط مصائر شعوبها. إن أحد أوجه التحدي الكبرى اليوم هو أن الأمن القومي العربي لا يمكن فصله عن مستقبل الاقتصاد الرقمي والبنى التحتية الذكية، فلا قيمة لأيّ رؤية وطنية مهما بلغت طموحاتها إذا لم تكن محمية بسياق إقليمي آمن ومستقر، فالذكاء الاصطناعي لا يزدهر في مناطق تخضع لحسابات الميليشيات، ولا تزدهر بنى الحوسبة الفائقة في مدن تتحكم فيها فصائل مسلحة.
المنطقة تمر بلحظة يمكن وصفها بأنها بداية نزع السلاح غير الرسمي، فالجماعات المسلحة التي نشأت ذات يوم كانت، في مضمونها، تعبيرا عاطفيا عن غضب مشروع، لكن إدارتها كانت مأساوية. الأنظمة العربية، تحت وقع الشعارات، سمحت بولادة كيانات خارج الدولة، من لبنان إلى العراق إلى اليمن الجنوبي، والآن في شمال اليمن، فكانت النتيجة أن باتت الدولة الوطنية محاصرة داخل حدودها. اليوم، هناك تفكيك فعلي لمنظومة الفصائل المسلحة في غزة، وتوجه لكبح جماح حزب الله في لبنان، وضغوط متصاعدة على الحوثيين في اليمن، ما يعكس بداية وعي متأخر بأن الشرعية لا تتجزأ، وأن لا مكان في خريطة المستقبل لكيانات تمتلك السلاح والفيتو معا.
ربط الأمن القومي بالبنى التحتية الذكية لم يعد مجرد مسألة تكنولوجية، بل أصبح ضرورة وجودية. القوى الكبرى تحدد خارطة النفوذ بناء على من يمتلك مراكز البيانات، ومن يتحكم بتدفقات المعلومات، ومن يملك تكنولوجيا المعالجة الفائقة، وهذه ليست قضايا قطاعية بل أدوات سيادية كاملة. لهذا، فإن الأمن القومي العربي في نسخته القادمة يجب أن يُعاد تعريفه انطلاقا من ثلاثية جديدة، السيادة المعلوماتية، وحدة القرار الوطني، وتجريم العسكرة خارج الدولة، وكل ما عدا ذلك هو مجرد إعادة إنتاج لماضٍ ثبت فشله.
وإذا كانت الفكرة في حاجة إلى زخم، وزخمها في حاجة إلى شخصية، فإن الشخصية المحورية التي تستحق أن تُذكر اليوم هي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي لم يكتفِ بأن يكون صانع قرار، بل أصبح بحد ذاته أحد محفزات العقل السياسي العربي نحو التحول، بحضوره ورؤيته واستيعابه لحجم التحديات، وقدرته على الإمساك بخيوط التوازن بين الجغرافيا والسيادة والتكنولوجيا. وجود هذه الشخصية في هذه اللحظة التاريخية يمنح فرصة نادرة لإعادة التفكير بكل المفاهيم الأمنية والتنموية التي نُسجت في القرن العشرين، لننتج منها مسارا نحو القرن الثاني والعشرين. فبعد فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة، وسقوط نظام الأسد في سوريا، وإضعاف حزب الله بعد القضاء على حسن نصرالله، تبدو المنطقة وكأنها تدخل مرحلة انتقالية فارقة تتطلب حضورا قياديا من نوع خاص.
الشيخ محمد بن زايد اليوم، بشعبيته وحكمته وتقديره الدقيق للمرحلة، يشبه في موقعه القيادي ما كان عليه جمال عبدالناصر في خمسينات القرن الماضي، لكن الفارق أن الشيخ محمد بن زايد لا يكتفي بالشعارات، بل يتسلّح بأدوات المستقبل، ويقود من موقع الإنجاز لا من منبر الخطابة، وهذا الفارق الجوهري يمنحه شرعية جديدة لصياغة رؤية عربية للأمن القومي تتجاوز الردود الدفاعية إلى المبادرة، ومن رد الفعل إلى بناء الإستراتيجية.
نحن في لحظة دقيقة، إما أن نستثمرها لبناء مشروع عربي جديد، أو نُضيّعها كما ضاعت فرص كثيرة من قبل. ترامب، مثل روزفلت، سيغادر المشهد يوما مّا، لكن السؤال سيبقى هل كنا جزءا من معادلة القرار، أم مجرد موقّعين على الهامش؟ المعركة اليوم ليست في واشنطن، بل في العقل العربي، إما أن نملك شجاعة إعادة التعريف، أو نستمر في لعب أدوار كُتبت لنا منذ الحرب العالمية الثانية.