يبدو أن قواعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا تغيرت بالكامل، وذلك بعدما تمكنت كييف من ضرب أهداف عسكرية داخل العمق الروسي باستخدام سرب من الطائرات المسيّرة الصغيرة من نوع “منظور الشخص الأول” (FPV)، التي كانت بمثابة “كلمة السر” في نجاح هذه العملية.
وساهمت الطائرات المسيّرة المصنّعة محلياً في أوكرانيا في تحويل الفناء الخلفي لروسيا من ملاذ آمن إلى مسرح عمليات مفتوح، وهو ما يُعيد تعريف قواعد الاشتباك مرة أخرى، وفق محللة الشؤون الأمنية الأميركية إيرينا تسوكرمان التي تحدثت لـ”الشرق”.
وشنت أوكرانيا، الأحد، هجوماً بعشرات الطائرات المسيّرة، أطلقت عليه اسم “شبكة العنكبوت”، مستهدفة 4 قواعد جوية عسكرية داخل العمق الروسي، وكانت تُستخدم لشن غارات جوية على جبهات القتال باستخدام قاذفات القنابل الاستراتيجية، في واحدة من أكثر العمليات جرأة منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من 3 سنوات، وفق الرواية الأوكرانية.
ماذا حدث؟
وأشارت أوكرانيا إلى أنها استهدفت أكثر من 40 قاذفة استراتيجية روسية، أي نحو ثلث أسطول القاذفات الاستراتيجية الروسية، التي “تضررت أو دمرت” في عملية منسّقة على بُعد آلاف الكيلومترات من خطوط المواجهة.
وقالت أوكرانيا إن النيران اندلعت في طائرات بقاعدة “بيلايا” الجوية، الواقعة في جنوب شرقي سيبيريا على بُعد نحو 5500 كيلومتر شرق الحدود الأوكرانية، وفي قاعدة “أولينيا” في شبه جزيرة كولا قرب مورمانسك، إضافة إلى قاعدة “دياجيليفو” الجوية على بُعد 200 كيلومتر جنوب شرقي موسكو، وقاعدة “إيفانوفو” الواقعة على بُعد 300 كيلومتر شمال شرقي العاصمة الروسية.
فيما قالت موسكو إن الهجوم تسبّب في اشتعال نيران في عدد من الطائرات في قاعدتين بإقليم إيركوتسك في سيبيريا ومقاطعة مورمانسك في الشمال، وأكدت أن الحرائق أُخمدت.
طائرات FPV المسيّرة
وأشارت كييف إلى أنها استغرقت نحو عام ونصف العام في التخطيط للهجوم الذي استُخدمت فيه عشرات الطائرات المسيّرة الصغيرة من نوع “منظور الشخص الأول” (FPV).
وتُعد مسيَّرة (FPV) طائرة غير مأهولة، تبث مجال رؤيتها للمشغّل في الوقت الفعلي، ما يتيح له التحكم بها كما لو كان على متنها، وتُعتبر كذلك من أكثر الأنواع شيوعاً في ساحة المعركة الأوكرانية.
ورغم تكلفتها المنخفضة نسبياً مقارنة بالمنصات الجوية الأخرى، إلا أنها أحدثت تحولاً جذرياً في فهم الحرب الحديثة، وذلك بفضل قدراتها الكبيرة على المناورة، وإمكانية تزويدها بالمتفجرات لتنفيذ ضربات موجهة، وفق “المجلس الأطلسي” Atlantic Council.
كما تُعد هذه المسيّرات مناسبة تماماً لاستهداف معدات محددة، مثل الرادارات والهوائيات المثبتة على الأسطح الخارجية للمركبات المدرعة.
ويعمل مشغلو مسيّرات FPV عادة ضمن فرق متخصصة تقع على بُعد كيلومترين إلى خمسة كيلومترات من خط المواجهة، وتوفر لهم هذه المسافة أماناً نسبياً من الأسلحة الصغيرة، والأنظمة الأكبر حجماً المثبتة على المركبات المدرعة، وكذلك من نيران قذائف الهاون غير المباشرة.
ونجحت أوكرانيا في إنتاج طائرات مسيّرة باستخدام مكونات محلية الصنع بالكامل، ما منحها قدرة أكبر على تطوير وإنتاج مسيّرات بكميات كبيرة لتلبية احتياجاتها بدقة.
وفي مارس الماضي، سلّمت شركة Vyriy Drone الأوكرانية رسمياً الدفعة الأولى من طائرات FPV، والمؤلفة من 1000 وحدة.
وقال متحدث باسم الشركة إن الحكومة لم تشترط أن يكون الإنتاج محلياً بالكامل. وأضاف أنهم يقومون بتصنيع الإطارات ولوحات البدء وأجهزة التحكم في الطيران وأنظمة التحكم عن بُعد.
وأشار إلى أن باقي مكونات تصنيع المسيّرة، بما في ذلك الكاميرات وأجهزة إرسال الفيديو والكاميرات، يتم الحصول عليها من شركات أوكرانية أخرى.
كلمة السر.. الاستخبارات
ويرى الخبير البريطاني في الدراسات الاستراتيجية، أوليفر ستيورات، أن الاستخبارات هي “كلمة السر” في الهجوم الأوكراني داخل العمق الروسي.
وقال ستيوارت في تصريحات لـ”الشرق”، إن نجاح أوكرانيا لا يتعلق فقط باستهداف قواعد روسية، ولكن أيضاً بنقل الشاحنات التي تحمل المسيّرات إلى نقاط الهجوم نفسها، وهو ما يتطلب استخبارات جغرافية عبر الأقمار الاصطناعية، وأنشطة استخباراتية داخل روسيا نفسها.
ووصف ستيوارت الهجوم الأوكراني بأنه “ضربة استراتيجية قاصمة”، وجرى تنفيذها باستخدام طائرات مسيّرة صغيرة يصعب الدفاع ضدها بالوسائل التقليدية.
ومضت محللة الشؤون الأمنية الأميركية إيرينا تسوكرمان قائلة، إن “نجاح أوكرانيا في ضرب وتدمير طائرات استراتيجية روسية ليس محض صدفة، بل هو نتيجة عقيدة مدروسة ومتطورة للحرب غير المتكافئة بعيدة المدى، والتي حوّلت عمق روسيا إلى عبء”.
ويبدو أن أوكرانيا اعتمدت بشكل كبير على طريقة مختلفة ساعدتها في استهداف العمق الروسي، عبر تطوير صواريخ كروز وطائرات مسيّرة مدعومة بتكنولوجيا غربية، ما مكَّنها من تشكيل قوة ضاربة قادرة على اختراق المجال الجوي الروسي، بحسب تسوكرمان.
أين الدفاعات الروسية؟
وضعت الضربة الأوكرانية المحللين أمام تساؤلات بشأن مدى فاعلية الدفاعات الروسية التي لم تنجح بالشكل الكافي في تأمين بعض من أهم المواقع العسكرية داخل البلاد.
واعتبرت المحللة الأمنية الأميركية أن “نظام الدفاع الجوي الروسي المُتباهَى به ليس القبة المنيعة التي يُروَّج لها، ولكنه مزيج من أنظمة قديمة من الحقبة السوفيتية، مثل S-200 وS-300، ومنصات أحدث ولكنها مُثقلة بالأعباء مثل S-400، وهياكل قيادة إقليمية لا تتواصل دائماً مع بعضها البعض”.
ونوَّهت إلى أن “الدفاعات الروسية متعددة الطبقات نظرياً، ولكن من الناحية العملية فهي مُجزّأة، وتعاني من نقص في الكوادر، بالإضافة إلى أنها ترتب أولوياتها بشكل خاطئ”.
وركّزت روسيا أفضل دفاعاتها حول موسكو ومراكز القيادة الرئيسية، تاركة القواعد والبنى التحتية الثانوية، بما في ذلك المطارات الاستراتيجية، دون حماية كافية أو محمية بأنظمة قديمة أكثر ملاءمة لاعتراض الصواريخ الباليستية، وليس من الطائرات المسيّرة منخفضة الارتفاع.
وتابعت تسوكرمان: “الضربات الأوكرانية غالباً ما كانت تسبقها عمليات خداع حرب إلكترونية، أو طائرات مسيّرة وهمية، تهدف إلى اختبار حساسية الرادار ولخداع أنظمة الدفاع، وبمجرد تحديد الثغرات، تأتي الضربات الحقيقية”.
ورأت أن “قواعد الطائرات الروسية لم تُصمم لمواجهة عدو يمتلك أنظمة استخبارات ومراقبة واستطلاع حديثة وطائرات مسيّرة بعيدة المدى دقيقة الاستهداف، ولكن لمواجهة غارات القاذفات الغربية، وليس لصد طائرات مسيّرة قيمة الواحدة منها 500 دولار، تتسلل عبر نقاط عمياء”.
ولفتت المحللة الأمنية الأميركية إلى أنه “غالباً ما يتم ترْك الطائرات الاستراتيجية الروسية دون ملاجئ مُحصَّنة، خاصة في قواعد الشرق الأقصى الروسي أو القواعد الشمالية، حيث كانت مستويات التهديد المُتصوّرة منخفضة تاريخياً. وغالباً ما تكون الصيانة غير منتظمة، والطواقم الأرضية مُرهَقة، وسلاسل القيادة تعاني من الفساد”.
ونبَّهت إلى أن “أوكرانيا استغلت التهاون الروسي في التأمين. وحددت نقاط الضعف لتويجه ضربات داخل العمق الروسي. فشل روسيا في توقُّع واعتراض هذا الهجوم لا يعكس مجرد هفوة تكتيكية، بل يكشف عن مفهوم استراتيجي خاطئ: أن المسافة تُعادل الأمن”.
هل تلقت أوكرانيا دعماً من الناتو؟
الخبير البريطاني في الدراسات الاستراتيجية أوليفر ستيورات رأى من جانبه، أنه “ربما تبادلت دول في حلف شمال الأطلسي (الناتو) المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا، ولكن لا يمكن أيضاً التقليل من قوة وتأثير الاستخبارات التي تعتمد على المصادر المفتوحة”.
وأشار إلى أنه “يمكن ترجيح فرضية أن أوكرانيا تلقَّت دعماً من استخبارات دولة أجنبية، ولكن لا يمكن تأكيد ذلك”. فيما أشارت تسوكرمان إلى أن “أوكرانيا هي من تطلق النار، ولكن ليست وحدها من يقوم بالرصد”.
وكان الدور الغربي، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا حاسماً في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.
ومن المرجح أن أوكرانيا تتلقى صوراً شبه لحظية من الأقمار الاصطناعية، واستخبارات الإشارات (SIGINT)، وخرائط الحرب الإلكترونية من حلفائها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تمتلكان أحدث أنظمة المراقبة العالمية في العالم.
وتُمكّن هذه الأنظمة كييف من تخطيط المسارات، وتجنُّب مناطق الكشف، وتقييم جاهزية الدفاع الجوي، وتحديد وقت ضرباتها بدقة متناهية.
“سلسلة التدمير”
تبدأ ما يُسمى بـ”سلسلة التدمير” بقرار أوكراني، ولكن ربما جُمعت الإحداثيات بواسطة قمر اصطناعي أميركي أو مركز تنصت بريطاني، لكن تسوكرمان استبعدت أن يصل دعم الناتو إلى حد “التواطؤ الرسمي في الضربات داخل العمق الروسي”.
ورسمياً، فرضت دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة قيوداً على استخدام بعض أسلحتها، مثل صواريخ ATACMS أو Taurus، في شن ضربات داخل العمق الروسي.
“لا مكان آمناً”
تحوّلت الطائرات المسيّرة إلى سلاح “مدمر بشكل لا يطاق” لأي جيش يقاتل بعقيدة القرن العشرين في ساحة معركة حديثة، وفق تسوكرمان.
وتُكلّف قاذفة استراتيجية بعيدة المدى مثل Tu-95 عشرات الملايين من الدولارات ويستغرق تصنيعها سنوات، فيما تُكلّف طائرة أوكرانية مسيّرة بعيدة المدى بضعة آلاف من الدولارات، ويمكن استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في تصنيعها جزئياً.
وتحدَّثت تسوكرمان عن أن “الطائرات المسيّرة تلحق أضراراً جسيمة لا تتناسب مع تكلفتها المنخفضة، عندما تصيب أهدافها، وحتى عند اعتراضها فإن العبء النفسي واللوجستي الذي تُلقيه على الجانب المُدافع يكون كبيراً”.
وحطمت الطائرات المسيّرة الإيقاع التقليدي للحرب، إذ لا يُمكن لروسيا إبقاء طواقم منظومة الدفاع الجوي متمركزة في كل قواعدها على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، عبر مساحة شاسعة تمتد عبر 11 منطقة زمنية. كما لا تحتاج أوكرانيا إلى استهداف منطقة ما بأكملها، ولكنها تبحث عن نقاط الضعف، وتصوب بشكل انتقائي، ومن ثم تنتقل إلى الهدف التالي.
كيف تردع طائرة مسيّرة؟
لم يشهد العالم حتى الآن تطوير تدابير مضادة ناجحة بشكل مثالي لردع هجمات أسراب الطائرات المسيّرة الصغيرة، بحسب الخبير البريطاني في الدراسات الاستراتيجية.
وأكد أن صد عمليات عسكرية مثل هجوم “شبكة العنكبوت” الذي شنته أوكرانيا، ومع عدم توفُّر معلومات استخباراتية سيكون “أمراً صعباً، وربما مستحيلاً”.
فيما أوضحت تسوكرمان أن روسيا سارعت بنشر أنظمة مُضادة للطائرات المسيّرة، ومنها أجهزة تشويش، ومدافع موجّهة بالرادار، وصواريخ اعتراضية مُتسكعة، ولكن هذه الأنظمة تفاعلية ومحدودة المدى والنطاق.
ومع تطوير أوكرانيا، طائرات مسيّرة ذاتية التوجيه بالذكاء الاصطناعي، يُمكنها تغيير مسارها أثناء الطيران، فإن اللعبة تزداد صعوبة، بحسب المحلة الأمنية الأميركية، التي لفتت إلى أنه “لا يمكن إيقاف خطر الطائرات المسيّرة. يمكن تدمير طائرة أو اثنتين، ولكن حتى الآن لا يوجد سلاح رادع حقيقي لمواجهتها”.
هل تصعّد روسيا باستخدام النووي؟
تتجه الأنظار إلى الرد الروسي المحتمل على الهجوم الأوكراني، إذ استبعدت المحللة الأمنية الأميركية أن تلجأ موسكو إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في ردها.
وأوضحت أنه “بموجب العقيدة الروسية والقانون الدولي، وأي تفسير معقول للضرورة الاستراتيجية، فإن موسكو لن تُقدِم على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية”.
ووفق العقيدة النووية الروسية المعلنة، لا يُسمح باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية إلا في الحالات التي يكون فيها وجود الدولة مهدداً، أو عندما تكون سلامة الأراضي الروسية معرّضة للخطر بسبب تهديد تقليدي واسع النطاق. ولا تفي ضربات الطائرات المسيرة التي تشنها أوكرانيا على المنشآت العسكرية، مهما كانت مدمرة، بهذا الشرط.