أطلقت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو على رأس وفد رفيع المستوى، مساراً جديداً لتطبيع العلاقات بين موسكو ودمشق.
وفتح الاستقبال الدافئ لأول مسؤول سوري يزور الكرملين منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد باب التكهنات بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين والدور الذي قد تلعبه روسيا في سوريا الجديدة.
ورغم “الإرث الثقيل” الذي تراكم عبر سنوات من خلال دعم لا محدود قدمته موسكو لحليفها السابق وأسفر عن إضعاف المعارضة وإطالة أمد الحرب الداخلية السورية، فإن نجاح الزيارة الأولى لمسؤول بالعهد الجديد في كسر الجليد وإطلاق خطوات عملية محددة، مثل تشكيل لجنة حكومية مشتركة لمراجعة الاتفاقات والعقود السابقة، ووضع آليات لبناء تعاون جديد، يعكس حرص الطرفين على تجاوز مشكلات الماضي.
وبدا أن موسكو ودمشق التقتا في لحظة تقاطع مصالح قد توفر فرصة جدية لترتيب آفاق جديدة للعلاقة.
مقدمات الزيارة
لا شك أن موسكو كانت مهتمة للغاية بإنجاح الزيارة التي تأخرت بعض الشيء، خصوصاً أن الدعوة لزيارة العاصمة الروسية وُجّهت إلى الشيباني منذ مايو.
ولم تُخفِ بعض الأوساط الروسية في وقت سابق نوعاً من الاستياء بسبب تجاهل القيادة السورية “الرسائل الإيجابية” التي تم توجيهها، بما في ذلك دعوة وزير الخارجية، والرسالة المهمة التي وجّهها الرئيس فلاديمير بوتين إلى نظيره السوري أحمد الشرع في مارس، وأكد فيها استعداد بلاده لفتح صفحة جديدة وتطوير “تعاون عملي واسع في كل المجالات”. وقد بقيت هذه الرسالة من دون رد.
لكن موسكو راقبت التطورات المتسارعة التي أحاطت بسوريا، منذ أحداث الساحل في مارس، مروراً بالفلتان الأمني الذي تمثل في فوضى السلاح وتفجير الكنيسة في يونيو، وصولاً إلى تفجر الوضع في منطقة الجنوب والمواجهات التي وقعت في السويداء، والتدخل الإسرائيلي الواسع على إثرها.
وتشير قناعة لدى أوساط روسية إلى أن سلطات دمشق تعرضت بعد مشكلة السويداء إلى “نكسة جدية” في جهودها لتوحيد السوريين وبسط نفوذها على الجغرافيا السورية، خصوصاً مع تعثر تطبيق الاتفاقات المبرمة مع “قسد” في شمال شرقي البلاد.
هذه التطورات دفعت، من وجهة نظر موسكو، السلطات السورية إلى تسريع تلبية الدعوة الروسية بعدما شعرت دمشق بالحاجة إلى الانفتاح على الأطراف المختلفة، بما في ذلك موسكو، وتحقيق نوع من التوازن في العلاقات الخارجية.
وبهذا، فإن الفهم الروسي لا يبتعد كثيراً عن فهم جانب من النخب السورية لأهداف ودوافع الزيارة، والمتملثة في ثلاث نقاط أساسية كما كتب أحد الخبراء، وهي: أولاً القلق من دور روسيا في زعزعة المرحلة الانتقالية، نظراً لحضورها العسكري في الساحل السوري. وثانياً: التحوط الاستراتيجي، فالعلاقة مع الغرب غير واضحة، والتحدي الإسرائيلي يلعب دوراً إضافياً. وثالثاً: المصالح المتبادلة في ظل العلاقة التاريخية بين البلدين.
استقبال الكرملين “التاريخي”
على هذه الخلفية، جاء الاستقبال الدافئ في الكرملين، والذي وصفته الخارجية السورية بأنه “تاريخي”. وتعمّد بوتين إظهار أكبر قدر من الحفاوة بالوفد السوري، وأطلق تصريحات مهمة بحضوره حول التزام موسكو بوحدة وسلامة الأراضي السورية، وتأكيد استعداده للتعاون الكامل مع القيادة الجديدة.
من الناحية البروتوكولية، لم يسبق لبوتين استقبال وزير خارجية بلد زائر إلا في حالات محدودة للغاية، وعندما يتعلق الأمر بمناقشات حساسة، مثل اللقاءات مع المبعوثين الأميركيين، أو استقبال وزير خارجية لبلد منخرط في دعم الحرب الأوكرانية.
والرسالة الأولى هنا أن موسكو مستعدة للانفتاح بقوة على علاقة جديدة مع دمشق بسرعة وثقة كاملة، وأنها تدرك حجم التحديات التي تواجهها حكومة الشرع.
الرسالة الثانية في الاستقبال أن مخاوف دمشق من وجود الأسد لاجئاً على أراضي روسيا قد طُويت. ولا يمكن للرئيس السابق، رغم أن موسكو لن تسلمه إلى دمشق، أن يلعب هو أو أنصاره أي دور مستقبلي في سوريا.
وهذه الرسالة مهمة للغاية على خلفية شكوك بعض السوريين بأن موسكو قد تكون دعمت تمرد الساحل من خلال ضباط سابقين ومقربين من الأسد، وأنها قد تسعى إلى الإفادة من زعزعة الأوضاع لتحسين موقفها التفاوضي في ملف القواعد العسكرية.
مجريات الحوار
وتمثلت النقطة الجوهرية في الحوار في بناء علاقة جديدة تضمن مصالح الطرفين السوري والروسي. وهنا من المهم التذكير بأن موسكو، خلال الأسابيع الماضية، دأبت على التأكيد، وعلى مختلف المستويات، أنها تتعامل مع الواقع الجديد في سوريا انطلاقاً من مبدأ ضمان مصالحها التي وصفت بأنها “مشروعة”.
في هذا الإطار، تعمل موسكو بقوة على عدم الظهور بمظهر “الخاسر استراتيجياً” بسبب سقوط نظام الأسد، وتسعى لإقامة نوع من التوازنات الجديدة في العلاقة، تحافظ فيها على الحدود الدنيا لمكاسبها السابقة، بما في ذلك الوجود العسكري على ضفاف البحر المتوسط.
وبالتأكيد، تعي موسكو جيداً أنه سيتوجب على الطرفين مراجعة الاتفاقات السابقة، بما في ذلك طبيعة هذا الوجود ومدته الزمنية ورقعته الجغرافية.
بهذا المعنى، يرى خبراء روس أن أحد الخيارات المطروحة هو الاكتفاء بوجود عسكري روسي في قاعدة طرطوس البحرية، استناداً إلى اتفاق قديم مبرم في العام 1972 يمنح موسكو هذه الإطلالة على البحر المتوسط من خلال “نقطة لوجستية” لخدمة السفن الروسية، مع إعادة النظر في وضع قاعدة “حميميم” الجوية، التي نقلت موسكو منها بالفعل كل العتاد الثقيل وأنظمة الدفاع الجوي ومنظومات الرادار وغيرها من المعدات إلى مناطق شمال شرقي سوريا.
في المقابل، تبدي موسكو استعداداً واسعاً لدعم السلطات السورية في ملفات إعادة الإعمار جزئياً، وفي ملفات سياسية مهمة للغاية.
لذلك، طُرحت سلسلة من المبادرات المباشرة، منها مستشفى ميداني في الجنوب، وتعاون اقتصادي، ومبادرة لدعم مسار المصالحة مع الأكراد في الشمال الشرقي للبلاد، وحتى جهود لتخفيف العقوبات عن الشعب السوري.
وفي هذا الإطار أيضاً، جاء الحديث عن احتمال شطب ديون سوريا، لمساعدة السلطات على تخفيف العبء الاقتصادي، وعن خطوات أخرى يمكن أن تُفسّر بأنها مساهمة روسية في تجاوز مشكلات الماضي.
ويبرز الغذاء والوقود من بين الخيارات التي قد تقدمها روسيا للاقتصاد السوري، وكذلك الدعم السياسي على مستوى مجلس الأمن، إضافة إلى الاستفادة من العلاقات بين موسكو وتل أبيب.
كل هذه الخطوات، وفقاً لخبير سوري، مدروسة وتدلّ على “محاولة روسية للظهور كشريك متفهم، لا كراعٍ حصري للسلطة كما في حقبة الأسد”.
دعم سياسي منتظر
على الصعيد السياسي، تنطلق موسكو من حاجة دمشق الملحة إلى إقامة نوع من التوازن في العلاقات الخارجية يساعدها على مواجهة التغول الإسرائيلي والتدخلات الخارجية الواسعة.
وفي هذا الإطار، تدرك موسكو جيداً أن السلطات السورية، وهي تواجه تحديات واسعة للغاية، تقع تحت ضغوط غربية مباشرة لقطع العلاقات نهائياً مع موسكو.
بالتالي، فإن التفاؤل الروسي مشوب بالحذر، وروسيا تراقب بشكل حثيث تطورات الوضع حول سوريا، وهي تعمل على تعزيز أوراقها التفاوضية مع دمشق، والإفادة من حاجة سوريا الجديدة إلى “ناظم دولي جديد يُحدث توازناً بعد الفراغات التي تركها الموقف الغربي، الذي يتفهم الموقف السياسي والأمني الإسرائيلي”، كما كتب أحد المعلقين.
في هذا السياق، جاء الاتصال الهاتفي الذي أجراه بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام معدودة من الزيارة، ورأى بعض الخبراء في موسكو أن مجرياته أسهمت أصلاً في تحديد موعد سريع لهذه الزيارة.
في المحادثة الهاتفية، شدد بوتين على التزام بلاده مبدأ وحدة وسلامة الأراضي السورية، لكنه ترك الباب موارباً لصفقات محتملة مع تل أبيب، عندما أشار في جملة لاحقة إلى استعداد موسكو للعب دور الوساطة لتسوية الملف النووي الإيراني.
هذا الوضع يُعد مؤشراً إلى أن موسكو ما زالت تمتلك أوراقاً للضغط أو للمساومة، وأنها مستعدة لتقديم دعم سياسي كبير في مقابل ضمان مصالحها.
في السياق ذاته، يدخل موضوع إعادة تموضع روسيا عسكرياً في القامشلي ومناطق شمال شرق سوريا.
وكانت تقارير سابقة تحدثت عن نقل العتاد الثقيل من قاعدة حميميم وتجهيز مطار القامشلي ليغدو قاعدة جوية متكاملة، لكن المهم في هذا الموضوع، وخلافاً لتقديرات بعض الخبراء السوريين الذين رأوا أن موسكو توجهت إلى تلك المنطقة لدعم “قسد” والتلويح بعمل انفصالي محتمل، أن التحركات الروسية جرت بتنسيق كامل مع تركيا، وبغضّ نظر من جانب الولايات المتحدة.
لذلك، فهي لا يمكن أن تحمل أبعاداً تهدد وحدة وسيادة سوريا، نظراً لتطابق وجهات النظر بين موسكو وأنقرة في معارضة النزعات الانفصالية في المنطقة.
وأكثر من ذلك، ترى موسكو في هذا الوجود، الذي قد يحظى بموافقة سورية مستقبلية، ضامناً استراتيجياً لعدم تهديد وحدة سوريا، وبديلاً محتملاً عن الوجود في “حميميم” لاحقاً، في إطار ترتيبات قد يتم الاتفاق عليها مستقبلاً.
مجلس الأمن
يكتسب هذا الملف أبعاداً مهمة في إطار مساعي التنسيق الجديدة بين موسكو ودمشق، خصوصاً أن روسيا تكرر استعدادها لتقديم الدعم السياسي المطلوب بقوة حالياً لدمشق.
وهنا من المهم الالتفات، كمثال، إلى أن موسكو ستتولى رئاسة مجلس الأمن في أكتوبر، ما يمنح فرصة لطرح ملفات للنقاش في المجلس، من بينها مبدأ وحدة وسلامة سوريا، وضرورة وقف الاعتداءات والتدخلات الخارجية فيها.
ولا بد من الإشارة إلى أن التزام موسكو بهذا المبدأ ليس ورقة تفاوضية مع دمشق فحسب، بل يعكس بشكل مباشر مصالحها في سوريا.
وخلافاً للفكرة الشائعة بأن موسكو قد تدعم توجهاً انفصالياً في مناطق الساحل لتأمين حضورها العسكري هناك في حال وصلت المفاوضات مع دمشق إلى طريق مسدود، فإن المنطق الروسي يقوم على رفض فكرة وجود قاعدة عسكرية روسية في منطقة أو كيان لا يحظى باعتراف دولي، ومعزول وغير آمن.
وتفضّل موسكو أن يكون وجودها في إطار اتفاقات محدثة مع سوريا الجديدة الموحدة، وهي بذلك ترى أن مصالحها تنطلق من إقامة علاقات جيدة مع دمشق، تستحضر تاريخ العلاقات التقليدية بين الشعبين والبلدين، وتسقط من الذاكرة حقبة بشار الأسد.
وفي هذا الإطار، من المفترض أن تكون مشاركة الرئيس أحمد الشرع المحتملة في القمة العربية الروسية المقررة في أكتوبر، مفصلاً جديداً ومهماً للغاية في توطيد ملامح علاقات دمشق وموسكو المقبلة.