على الرغم من المآسي التي يشهدها السودان، لا يميل الفنان التشكيلي جلال يوسف إلى التشاؤم، وهو لم يفقد الأمل بالريشة والألوان والمستقبل.
يقدّم لوحات تنبع من توهّجه الذاتي، أكثر مما يتبع تقليداً فنياً أو مدرسة ما، يظل يجرّب ما بين النحت والرسم والجداريات. هنا حديث معه حول الفن والحرب.
بداية، كفنان كيف أثّرت عليك الأوضاع المأساوية في السودان حالياً؟
هي ليست مأساة الفنان وحده، بل مأساة شعب كامل، وهو وضع إنساني يمرّ به الفنان السوداني كما هو حال السودانيين جميعاً، الذين أجبرهم جحيم الحرب على الفرار والبحث عن مكان آمن، لكن يبقى تأثير الحرب على الفنان أعمق، بسبب حساسيته لما يدور حوله.
لكن للأسف فقدت الاستديو الخاص بي الذي عملت فيه لثمانية أعوام خلال بسبب الحرب، وكان يضمّ أعمالي المحببة إليّ كلها.
هل تؤمن أن للفن دور في إيقاف الحرب ومشاعر العداء والعنصرية؟
الفن يوحّد الوجدان، ويخاطب الناس ليس بناء على شكلهم أو لونهم أو عرقهم. لكن الصراع في السودان معقّد، هو صراع سياسي تنخرط فيه جهات كثيرة بعضها خارجي، لذلك فهو متشابك، وصوت البنادق أعلى، ويتجاوز طاقة الفن في الوقت الحالي.
لكن الفن موجود، ومازال يصارع في محاولة للتأثير على الأحداث الجارية، والدعوة للوحدة بين السودانيين، فنحن شعب واحد لاتفرّقنا قبيلة أو لون أو عرق.
هل تعتقد أن الحرب الدائرة غيّرت نظرتك إلى الفن عموماً؟
الحرب انطلقت وأغلب الشعب السوداني كان نائماً، إنها لحظة مفصلية في حياتنا ككل، وبالنسبة إليّ، وصلت إلى استنتاج، أنه لا ضمانات في هذه الحياة، إذ يمكنك أن تفقد كل شي في لحظة، ويمكن أن تتغيّر حياتك للأبد، لكن السؤال الأكبر، هل يمكن أن تبدأ حياتك من جديد بعد فقدان كل شي؟ وهل يمكنك أن تنهض فعلاً من جديد وتقول أنا هنا؟
نلاحظ في بعض أعمالك المتعلقة بالمأساة في السودان، ميل إلى التجريد لكنها لا تخلو من البهجة؟
الفن دائماً يتحدث عن الأمس واليوم والمستقبل، ودائماً يطرح قضايا مرتبطة بهذا الثلاثي، نعم أطرح المأساة والنزوح والشتات، وكل المعاناة التي يمرّ بها شعبي، أطرحها فنياً للتوثيق، فهي جزء من تجربة السودان والسودانيين، وطرحها يعني أن أكون صوتاً لشعبي، ونوعاً من المقاومة، ورهاناً على العودة والازدهار، ونهوض السودان مجدداً، فالحروب لا تستمر إلى ما لا نهاية.
على سيرة البهجة، ما سر ولعك بالألوان الزاهية مثل الأزرق والأحمر؟
الألوان لها رمزيات ودلالات كثيرة، لكنها حالة حسّية في بعض الأحيان، إذ يجد الفنان نفسه مولعاً بلون معيّن أو ألوان خاصة، ثم ينجذب إلى ألوان أخرى، وهذا يعتمد على إحساسه بها، وقدرتها على التعبير عن حالته.
عموماً أحب الألوان كلها، حتى الأبيض والأسود، لكن الأزرق يمثّل عمقاً دائماً، و الأحمر لون أساسي لا يمكنني التخلي عنه.
تفكير في الفراغ
دراستك الأساسية كانت في النحت، فكيف تننقل عبر مواد التشكيل المختلفة؟
صحيح تخصّصت بالنحت وأحبه، ودراسة النحت تختلف تماماً عن التلوين، فالنحت ثلاثي الأبعاد ويتعامل مع الكتلة والفراغ؛ أما التلوين أو الرسم، فهو ثنائي الأبعاد، كما أن طريقة التفكير في المجالين مختلفة، لكن نتفق في الأساسيات مثل التصميم الأساسي للعمل الفني، لجهة التناسق والانسجام وحجم الأشياء.
إلى جانب الدراسة بمن تأثّرت من الفنانين الكبار العرب أو العالميين؟
لم أتأثّر بفنان معين، لكن أنا معجب بالأعمال الجيدة والمتقنة، التي تحمل روحاً تجديداً واختلافاً أيضاً.
الرسم في الشوارع
لديك اهتمام خاص بالجداريات والرسم في الشوارع، من أين يأتي هذا الشغف وماذا يعني لك؟
درست الفن الجداري أثناء تخصصي بالنحت، وفن الشارع مختلف جداً وصارخ، لكني خضت في هذا المجال واندفعت نحو فن الشارع، كي أخرج الأعمال الفنية من صالات العرض وأجعلها متاحة للجميع من دون استثناء.
رسمت جداريات عدّة في الخرطوم في فترات مختلفة، وحتى الآن هناك جداريات ما زالت صامدة، على الرغم من الحرب والدمار ، وكذلك رسمت جداريات في دول أخرى مثل ألمانيا ورواندا وأثيوبيا وكينيا.
هل الجدارية هي توثيق أم صرخة في وجه القبح من حولنا؟
الجدارية هي صرخة بالتأكيد، وهي تحدّي نخوضه لقول شيء ما، ومحاولة لمحاربة القبح، والجدارية ليست شكلاً جميلاً فقط، بل تحمل رسائل ومحتوى.
هل حدث وتعرّضت جدارية لك للتخريب، وكيف كان انطباعك؟
نعم حدث ذلك مراتٍ عدّة، لكن برأيي أن الخراب هو مرحلة من حياة العمل الجداري، لكن بغض النظر عن عمر الجدارية وتاريخ العبث بها، تبقى وسيلة لإيصال الرسالة، فهي في النهاية منبر عام ضد الخراب.
ثمة حركة تشكيلية سودانية متميّزة لكنها لا تبدو معروفة بما يكفي للجمهور العربي، ما السبب؟ ومن هم أبرز الأسماء برأيك؟
الفنان السوداني موجود، وهناك حركة فنية سودانية حتى بعد الحرب، لكن الجمهور العربي يجب عليه الانفتاح أكثر على من حوله، وأن يمنح الفرصة للتعرف على الآخرين. هناك فنانون سودانيون مقيمون في دول الخليج، ويشاركون في المعارض ويقومون أيضاً بتدريس الفنون في المدارس، فهم موجودون ومنتجون وكذلك في أوروبا.
بماذا تحلم كفنان تشكيلي سوداني في اللحظة الراهنة؟
حلم كل سوداني، بالسلام والوطن الآمن الذي يتسع للجميع، بكل أطيافهم وأعراقهم.