
كتب إحسان الشمري في صحيفة عكاظ.
لم يكن عقد مؤتمر نيويورك الخاص بتطبيق حلِّ الدولتين الذي رعته المملكة العربية السعودية خارجاً عن سياق المبادرات التي طرحتها على امتداد جهدها الدبلوماسي والتزامها تجاه القضية الفلسطينية، إلا أن ما يميّز الحراك السعودي الراهن، لا يكمن في توقيته فحسب، بل في تحوله إلى مشروع دبلوماسي متكامل يجمع بين الثوابت القومية والإسلامية والبراغماتية السياسية، ويترجم على الأرض لا عبر البيانات، كذلك فإن المبادرة تنبع من موقع قوة سياسية فاعلة قادرة على رسم خرائط إقليمية بل وحتى دولية، هذا التحرك لا يكتفي بإبداء النيات بل يكرس الفعل السياسي المستند إلى عقلانية واتزان وإيمان راسخ بضرورة تحقيق الاستقرار في المنطقة. إن مؤتمر نيويورك هو نتيجة مباشرة لسلسلة متغيرات حادة فرضتها الحرب داخل غزة ونهاية حزب الله والتصعيد مع طهران، مما جعل الرياض ترى أن ترك زمام المبادرة بيد قوى خارجية لم يعد خياراً ممكناً، فالرياض لا تتحدث فقط عن حل الدولتين بل تحاول صناعته، وترجمة فعلية لهذا الإيمان لا مجرد دعم نظري.
مثّلت مبادرة السلام العربي عام 2002 نقطة ارتكاز للسعودية، لتعود في هذا التوقيت كمرجعية أصيلة في مقاربة المسألة الفلسطينية، لكن الفارق أن الرياض لم تعد تكتفي بطرح المبادرات، بل تتصدر تنفيذها ضمن رؤية أشمل لشرق أوسط جديد يقوم على المصالح المشتركة والتنمية والاستقرار، كما أن فلسفة السعودية الجديدة التي يعبر عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ترتكز على بناء فرص سلام، لا تفويت لحظات، ولعل الانشغال الأمريكي وتآكل المبادرات الأممية شكلا حافزاً إضافياً دفع السعودية إلى التحرك، لا كمجرد راع للقضية الفلسطينية، بل كقائد فعلي لمسار سياسي بديل.
أما الشراكة السعودية-الفرنسية فهي رهان محسوب بدقة، نجح في نقل القضية الفلسطينية من إطارها الإقليمي إلى محفل دولي واسع التأثير، فالمشاركة الواسعة التي شهدها مؤتمر نيويورك أنتج ضغطاً متصاعداً على إسرائيل ووضعها أمام معادلة صعبة، إما أن تواصل الرفض أو أن تنخرط في مشروع يتطابق مع قرارات مجلس الأمن والقانون الدولي، كما أن الرياض بما تملكه من أدوات قادرة على لعب دور الدولة الضامنة لحلول سياسية عادلة، فهي لم تكتف برعاية الحوارات بل أثبتت قدرتها على جمع فرقاء متخاصمين في ملفات معقدة، من لبنان إلى العراق والسودان، وهذا الإرث التفاوضي منح السعودية مشروعية التقدم بمبادرات توصف بأنها أكثر من مجرد تحركات رمزية، بل هي رهان جاد يمكن البناء عليه.
إن استمرار الرفض الإسرائيلي لحل الدولتين سيدفع بالتحالف الداعم لهذه الرؤية، وعلى رأسه السعودية، إلى التوجه نحو مجلس الأمن، فهناك رصيد من القرارات الدولية التي تدعم مبادرة نيويورك، خصوصاً أن المبادرة الحالية بحد ذاتها تشكل قاعدة سياسية لإلزام إسرائيل بخيار السلام، لا باعتباره مطلباً فلسطينياً فحسب، بل كضرورة إقليمية ودولية، كذلك فإن الزخم الذي رافق المؤتمر من حيث حجم المشاركة العربية والدولية منح المبادرة قوة غير مسبوقة، لا سيما أن هذا التحرك لا يُقرأ باعتباره تصعيداً ظرفياً، بل انعطافة طويلة الأمد في فلسفة التعامل مع ملف الصراع العربي- الإسرائيلي.
إن المبادرة السعودية لا تعبّر عن لحظة استثنائية فحسب، بل تضع أسساً لواقع دولي جديد، فلم يحدث من قبل أن حظيت دولة فلسطين بهذا القدر من التأييد المتزامن من قوى غربية كبرى كفرنسا وإسبانيا وكندا وبريطانيا، هذا الدعم لا يمكن وضعه في خانة الضغط المرحلي، بل هو تحول إستراتيجي يمكن البناء عليه، ويجب على إسرائيل أن تتعاطى مع هذا الواقع، لا بوصفه تحدياً، بل كفرصة لإنهاء عقود من الجمود السياسي، فلسنا أمام موجة مؤقتة من التعاطف، بل أمام مسار تاريخي بدأ يتشكل والسعودية في صدارة صُنّاعه.