
لا يكاد يمرّ يوم واحد في لبنان من دون أن تتصدر أخبار حوادث السير عناوين النشرات، وتتحوّل الطرقات إلى مشاهد مروّعة من الدماء والحطام. ففي بلد تتفاقم فيه الأزمات على مختلف المستويات، باتت أزمة السلامة المرورية واحدة من أخطر التحديات اليومية، تحصد الأرواح وتخلّف وراءها مآسي إنسانية واجتماعية تتكرر من دون أي بوادر حقيقية للمعالجة.
أعداد الوفيات والإصابات الناتجة عن حوادث السير في لبنان شهدت ارتفاعًا ملحوظًا خلال العامين الأخيرين، حيث أصبحت الطرقات أشبه بحقول ألغام يتنقل عليها المواطنون، معرضين في كل لحظة لاحتمال الانقلاب أو الاصطدام أو الدهس. هذا الواقع بات يفرض تساؤلات حادة حول أسباب هذا التصاعد، والمسؤوليات المترتبة، والإجراءات الغائبة.
إن أزمة السير في لبنان ليست وليدة لحظة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال والتقصير في عدد من الجوانب الأساسية:
أولًا: تدهور البنية التحتية حيث تعاني الطرقات اللبنانية من اهتراء واضح في طبقات الإسفلت، وانتشار الحفر والتشققات، وغياب الإنارة في العديد من المناطق، فضلاً عن غياب إشارات المرور واللافتات التحذيرية. في كثير من الشوارع، لا وجود لخطوط المشاة أو الفواصل الأرضية، ما يزيد من خطر الحوادث خصوصًا في ساعات الليل.
ثانيًا: غياب تطبيق قوانين السير بشكل فعّال أسهم في تشجيع الفوضى المرورية، وكذلك تجاوز الإشارات، والقيادة المتهورة، والسرعة الزائدة، والتوقف العشوائي، كلها مخالفات شائعة تمرّ من دون محاسبة. كما أن وقف العمل بالفحص الميكانيكي الدوري للسيارات في السنوات الأخيرة ساهم في انتشار مركبات غير مؤهلة للسير على الطرقات.
ثالثًا: ان الأوضاع المعيشية المتدهورة انعكست بشكل مباشر على سلامة المركبات، حيث أصبح من الصعب على كثير من السائقين صيانة سياراتهم أو استبدال الإطارات والفرامل والقطع الأساسية. كما أن تقليص الموارد العامة أثّر سلبًا على قدرة الدولة على تنفيذ برامج صيانة الطرق وتأهيلها.
رابعًا: السلوكيات الفردية الخطرة، حيث لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه التصرفات الفردية في رفع منسوب الخطر. فالاستخدام المفرط للهواتف أثناء القيادة، وعدم ربط حزام الأمان، والقيادة تحت تأثير الكحول أو التعب، كلها سلوكيات شائعة. تزداد خطورتها مع انتشار الدراجات النارية غير المرخّصة أو غير المجهزة بعوامل الأمان، والتي غالبًا ما تُقاد بتهور يفوق كل المعايير.
وما من شك أن معالجة أزمة حوادث السير في لبنان تتطلب رؤية متكاملة تتوزع على أكثر من مستوى أبرزها: خطة طوارئ لصيانة الطرق اذ من الضروري إطلاق حملة شاملة لإعادة تأهيل البنية التحتية للطرق، لا سيما تلك التي تشهد كثافة مرورية عالية. تشمل هذه الخطوة ردم الحفر، إعادة تخطيط الشوارع، صيانة الجسور، وتركيب إشارات وإنارة كافية، وتفعيل الرقابة وتطبيق القوانين، حيث ينبغي إعادة تفعيل الفحص الميكانيكي الإلزامي للمركبات، وتعزيز وجود قوى الأمن على الطرقات، مع استعمال الكاميرات والتكنولوجيا لضبط المخالفات تلقائيًا. الردع القانوني يجب أن يكون فعّالًا وسريعًا لتغيير السلوك العام.
وعدا ذلك فإن الموت سيبقى يلاحق اللبنانيين، ومنسوب المتوفين في الشوارع سيستمر في الارتفاع.