منذ عقود، والكهرباء في لبنان تُشبه حكاية “إبريق الزيت” التي لا تنتهي. تتبدّل الحكومات، تتعاقب الخطط، وتُصرف المليارات، لكن النتيجة واحدة: عتمة شبه دائمة، واعتماد شبه كلي على المولدات الخاصة، التي أصبحت دولة موازية داخل الدولة، تبتزّ المواطن وتسدّ فراغ الدولة الفاشلة في تأمين أبسط حقوقه.
أزمة قديمة بثوب جديد
بدأت أزمة الكهرباء في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، حين وُضعت أولى الخطط لإعادة إعمار قطاع الكهرباء، وخُصّصت لها مليارات الدولارات، لكن الفساد، وغياب الرؤية المستدامة، والمصالح السياسية والطائفية، جعلت من هذه الخطط حبرًا على ورق، وذهبت الأموال أدراج الرياح، من دون أي تحسّن جذري في واقع التغذية الكهربائية.
على مدى السنوات، بات معدّل التغذية يتراوح بين ساعتين إلى 8 ساعات يوميًّا في معظم المناطق، بينما تنعم بعض الأحياء المحظوظة في بيروت بتغذية أفضل، غالبًا لأسباب سياسية أو أمنية. أما المواطن العادي، فصار مُجبرًا على دفع فاتورتين: واحدة للدولة، وأخرى للمولّد، ما يثقل كاهله الاقتصادي في ظل أزمات معيشية متلاحقة.
وسط غياب الدولة، تمدّدت “إمبراطورية المولدات” الخاصة لتصبح بديلًا وحيدًا للكهرباء الرسمية. أصحاب المولدات يتحكّمون بالأسعار، ويُقنّنون التغذية وفق أهوائهم، فيما تكتفي الدولة بدور المتفرّج أو المفاوض الضعيف.
وقد أُثيرت مرارًا قضايا تتعلّق بالاحتكار، والتسعير العشوائي، وعدم التزام أصحاب المولدات بتركيب العدّادات رغم قرارات وزارة الطاقة، لكن لا رقيب ولا حسيب، والمواطن يئنّ، والحلول غائبة.
يُقدَّر ما أُنفِق على القطاع منذ التسعينيات بأكثر من 40 مليار دولار، وهو رقم ضخم يعادل نصف الدين العام تقريبًا، بحسب تقديرات رسمية وتقارير ديوان المحاسبة.
ومع تفاقم الأزمة المالية منذ 2019، انهارت قدرة الدولة على استيراد الفيول، وتراجعت التغذية إلى ما يقارب الصفر لساعات طويلة، ما دفع المواطنين إلى خيارات بديلة، كألواح الطاقة الشمسية، رغم كلفتها المرتفعة وعدم توفّرها للجميع.
لا يكاد يمرّ شهر إلّا وتُعلن وزارة الطاقة أو مؤسسات الدولة عن “حل قريب” أو “خطة إنقاذية جديدة”، تشمل استجرار الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن عبر سوريا، أو مشاريع شراكة مع القطاع الخاص، لكن شيئًا لا يتحقّق. العوائق تتكرّر: نقص التمويل، العقوبات الدولية، التعقيدات الإدارية، والروتين السياسي.
حتى المساعدات الدولية، كعرض شركة “سيمنز” الألمانية في 2018، أو المبادرة الفرنسية، اصطدمت بجدار الفساد والمصالح السياسية الضيّقة، فذهبت أدراج الرياح.
هل من أمل في الأفق؟
رغم الصورة القاتمة، يرى بعض الخبراء أن الحل ممكن في حال توفّرت الإرادة السياسية الحقيقية، وأُبعِد ملف الكهرباء عن المحاصصات. ويشيرون إلى أهمية اعتماد الشفافية، إشراك القطاع الخاص تحت رقابة الدولة، وتنفيذ إصلاحات جذرية في مؤسسة كهرباء لبنان، إلى جانب تنويع مصادر الطاقة، والاستثمار في الطاقة المتجدّدة.
لكن حتى ذلك الحين، ستبقى “حكاية إبريق الزيت” مستمرة، وسيبقى اللبناني رهينة للظلام، والدولة أسيرة لعجزها المزمن عن إدارة أحد أهمّ القطاعات الحيوية.