بعد نجاحه في تحقيق طموحه بخلق «موجة حمراء» في الولايات المتحدة، مستخدماً إمكاناته المالية بشكل لا مثيل له في أي انتخابات رئاسية أميركية، لانتخاب الرئيس دونالد ترمب، بدا إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، الذي قاد جهود تقليص الحكومة الفدرالية، كأنه يتحسس خطورة انعكاسات دوره السياسي على أعماله التجارية. وبعد إنفاقه ما لا يقل عن 288 مليون دولار في انتخابات 2024، وقبل أن تمضي 100 يوم على ولاية ترمب الثانية، واجه إيلون ماسك موجة من الانتقادات بسبب نشاطه السياسي، ما دفعه إلى الإعلان عن نيّته الانسحاب من المشهد السياسي في واشنطن. وأكد أنه سيكرّس وقتاً «أقل بكثير» للسياسة، قائلاً إنه «قام بما يكفي»، وأنه يعتزم العودة إلى ما يستهويه أكثر.
وكانت السياسة محور هوية ماسك وشغفه خلال معظم العام الماضي، والأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، ليقود وكالة كفاءة الحكومة (دوج) التي أطلقت عمليات تسريح واسعة النطاق للموظفين الفيدراليين وتخفيضات في الميزانية. غير أنه لم يكن يتوقع مستوى ردود الفعل العنيفة ضده شخصياً أو ضد شركاته، بما في ذلك حوادث العنف التي تعرضت لها صالات عرض سيارات «تسلا»، ما جعله يدرك التكلفة الشخصية التي بدأ يدفعها، وقلقه على سلامته الشخصية وسلامة عائلته.
مشاركة سياسية أقل
وخلال مشاركته في منتدى قطر الاقتصادي، قال ماسك إنه سينفق «أقل بكثير» على الحملات الانتخابية ما لم يجد «سبباً» لذلك في المستقبل. ونقل عن أحد الأشخاص المقربين منه قوله إن ماسك يشعر بخيبة أمل من تأثير أمواله على النظام السياسي، ويفضل إنفاق وقته وثروته في مكان آخر. وأضاف ماسك أن اهتمامه بشركتي «تسلا» و«سبيس إكس» اللتين بنتا سمعته بوصفه مبتكراً تكنولوجياً، ويشغل فيهما منصب الرئيس التنفيذي، ضروري.
وبعدما تكبدت «تسلا» خسائر مالية جسيمة، وتراجعت قيمتها السوقية بشكل كبير، تخطط لإطلاق سيارة كهربائية ذاتية القيادة بالكامل في يونيو (حزيران). كما من المتوقع أن تطلق شركة «سبيس إكس» صاروخ «ستارشيب» من الجيل التالي الأسبوع المقبل.
ويعتزم ماسك إرسال أسطول من المركبات غير المأهولة إلى المريخ بحلول عام 2026، في خطوة تُعد مفصلية، ضمن مسعاه الممتد منذ عقود لتحقيق هدفه الكبير: إيصال البشر إلى الكوكب الأحمر (المريخ). إلا أن أحد العوامل البارزة التي دفعته إلى اتخاذ قرار الانسحاب من المشهد السياسي تمثّل في الفجوة الكبيرة بين الوعود والعوائد الفعلية؛ إذ إن التخفيضات في الإنفاق التي تعهّد بها، والتي قدّرها بنحو تريليوني دولار ضمن ميزانية الولايات المتحدة، لن تُحقق سوى وفورات لا تتجاوز 160 مليار دولار في السنة المالية 2026.
وتبدو هذه العوائد ضئيلة بالمقارنة مع مشروع القانون المالي الذي وصفه الرئيس ترمب بـ«الجميل»، والذي أقره مجلس النواب الخميس الماضي، وينتظر مصادقة مجلس الشيوخ. ووفقاً لتقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس، سيضيف هذا المشروع نحو 2.4 تريليون دولار إلى الدين الوطني خلال السنوات العشر المقبلة.
لم يدرك شدة المعارضة
ونقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن شخص مقرب من ماسك، قوله إنه لم يتوقع مطلقاً أن تكون مشاركته السياسية سهلة، وأنه كان يأخذ في الاعتبار الأخطار الشخصية والمالية التي سيتحملها، نتيجة دعمه مرشحاً يعارضه الديمقراطيون الذين يعدون أكبر قاعدة عملاء لشركة «تسلا». ومع ذلك، كان ثابتاً في التزامه السياسي، مُعلناً أن دعمه لترمب ينبع من مُثُل «فلسفية» حول الهجرة والجريمة والتعديل الأول للدستور الأميركي، وليس من مصلحته الشخصية.
وكان ماسك يُخطط لمشاركة لجنته «أميركا باك» بشكل كبير في الإنفاق والتخطيط في انتخابات التجديد النصفي لعام 2026، وسباقات المدعين العامين المحليين في جميع أنحاء البلاد. وفي الأسابيع القليلة الماضية، كانت اللجنة تُناقش خططاً أولية لانتخابات التجديد النصفي في ولايات مُحددة، على الرغم من إسهامات ماسك المحدودة. ومع ذلك كان من المتوقع أن يكون لها تأثير معنوي كبير. إلا أن تعليقات ماسك الأخيرة، أشارت إلى أن الوضع قد ساء أكثر بكثير.
ولم يتوقع ماسك شدة رد الفعل على دوره السياسي، وتصريحاته وتدخلاته حتى في السياسة الخارجية وتوجيهه انتقادات لبعض الدول الأوروبية. وأثارت جهوده في «دوج» التي فرضت تسريحات كبيرة في كل الإدارات الفيدرالية، احتجاجات محلية وعالمية في محطات شحن «تسلا» ومعارضها حول العالم، وفي بعض الحالات، أعمال عنف شملت التخريب وإلقاء قنابل المولوتوف وإطلاق النار.
وفي الشهر الماضي، أعلنت «تسلا» عن انخفاض بنسبة 71 في المائة في الأرباح، وانخفاض كبير في المبيعات خلال الربع الأول من العام، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
كما أظهرت نتائج استطلاعات رأي عن تراجع شعبية ماسك؛ حيث وجد الاستطلاع أن 35 في المائة من الأميركيين يوافقون على طريقة تعامله مع منصبه في إدارة ترمب، في حين أبدى 57 في المائة عدم موافقتهم. ويعتقد أن مشاركة ماسك في إنفاق 50 مليون دولار على حملة المرشح الجمهوري الذي يدعمه ترمب في سباق المحكمة العليا في ولاية ويسكنسن الذي جرى قبل أشهر، هي السبب في خسارته أمام المرشحة الديمقراطية في ولاية فاز فيها ترمب العام الماضي. ودفعت النتيجة بعض الجمهوريين إلى التساؤل عما إذا كان تدخل ماسك قد أضر أكثر مما ساعد، ومن المرجح أن يكون هذا قد أسهم في قراره بالانسحاب.
«تسلا» و«المريخ»
ويُخطط ماسك للتركيز مجدداً على مستقبل «تسلا»، وقال إن هذا العام سيكون محورياً للشركة، التي تستعد لإطلاق مركبة ذاتية القيادة الشهر المقبل في مدينة أوستن بولاية تكساس، كان قد وعد بإطلاقها قبل عقد.
وقال إن المركبات ذاتية القيادة ستكون في سيارات «تسلا» متوسطة الحجم من طراز «واي». كما يركز ماسك على سيارة «سايبركاب»، وهي مركبة كُشف عنها العام الماضي من دون عجلة قيادة ودواسات، ووصفها بأنها سيارة فاخرة بسعر 30 ألف دولار، وقال إنها ستُطلق خلال السنوات القليلة المقبلة.
وفي ظل تصاعد المنافسة مع الصين، يتطلع ماسك أيضاً إلى إعادة تركيزه على «سبيس إكس»، وصرح بأنه سيزور «ستاربايس»، موقع صواريخ «سبيس إكس» في جنوب تكساس، هذا الأسبوع لإلقاء محاضرة «يشرح فيها خطة (سبيس إكس) للمريخ».
ومن المتوقع أيضاً أن تطلق الشركة صاروخ «ستارشيب» من الجيل التالي، وهو الأكبر والأقوى في العالم، في رحلة تجريبية أخرى بعد أن انتهت التجربتان السابقتان بفشل ذريع.
وهذا العام أطلقت الشركة ألف قمر صناعي لكوكبة «ستارلينك» للإنترنت، وهو قسم شهد في ظل إدارة ترمب تحسناً في توفير الإنترنت في المناطق الريفية الأميركية وخارجها. وواصلت «سبيس إكس» نقل رواد الفضاء من وإلى محطة الفضاء الدولية لصالح وكالة «ناسا». ونجحت في إعادة رائدي الفضاء العالقين في المحطة، بعد أن قررت «ناسا» أن المركبة الفضائية التي كانا على متنها من إنتاج «بوينغ» ليست آمنة بما يكفي لإعادتهما إلى الأرض.