
كتب علاء الترتير, في العربي الجديد:
بعد أن دمّرت إسرائيل وداعموها الدوليون قطاع غزّة على مدار العامَين الماضيَين، ينصبّ اهتمامهم الرئيس على رسم ملامح وتفاصيل المرحلة المقبلة، وفرض شكل “اليوم التالي” ومعطياته، وإكمال مخطّطات الاستعمار الاستيطاني تحت غطاء ما يُسمّى بوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار. فبدلاً من المحاسبة والمساءلة والرضوخ لمنطق وسلطة القانون، تستمرّ إسرائيل وداعموها في فرض منطق القوة وعدم الاكتراث بكل الأعراف والقوانين، بل وفي الإمعان في مخطّطاتها الاستعمارية. والأدهى أن العديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين يتعاملون مع إسرائيل “شريكاً” و”صاحبَ حقٍّ” و”مسيطراً” و”متحكّماً” و”ضابطاً” لعملية إعادة الإعمار في غزّة بدلاً من معاقبة ذلك الفاعل على ما اقترفه خلال العامَين الماضيَين، بل منذ نشأته عام 1948. وبذلك، لن يجلب “تطبيع” الجريمة والإبادة والدمار تحت غطاء “صنع السلام” السلامَ أو العدالة لأحد، بل سيوفّر الغطاء لإسرائيل وحلفائها لتشكيل المنطقة كما يحلو لهم؛ فالتعامل مع إسرائيل وكأنّها “دولة عادية”، لن يأتي بتداعياته على الفلسطينيين فحسب، وإنما سيمتدّ لما هو أبعد من ذلك كما شهدنا مراراً وتكراراً خلال العامَين الماضيَين.
إعادة إعمار غزّة نقطة مفصلية لإعادة تشكيل القيادات السياسية والتخطيطية والتقنية الفلسطينية
أمّا التعامل مع قطاع غزّة ويومه التالي، وعملية إعادة الإعمار وفق الرؤية الإسرائيلية وخطّتها الملوّنة الجديدة، وجغرافيتها الجديدة للقطاع، واشتراطاتها بشأن مَن يحكم الفلسطينيين وكيف سيكون شكل المستقبل… ذلك كلّه ما هو إلّا استسلام مباشر لحالة الاستعمار وديمومته، وإن أخذ شكلاً آخر ومسمّيات أخرى.
مركزية الإنسان والسياسة التي توائم ما بين الاحتياج الأساسي الإنساني والاحتياج السياسي، تمثّل قضيةً جوهريةً تسعى خطط عديدة منشودة لإعادة إعمار غزّة إلى طمسها وإنكارها. فمركزية هذه الثنائية، الإنسان والسياسة، تمثّل نقطة بداية مغايرة لما هو مفروض على الفلسطينيين في غزّة، فتبنّي مقاربة كهذه، تربط الاحتياج الأساسي الإنساني بالاحتياج السياسي، وتخرج الفلسطينيين من المربّعات والأطر المفروضة عليهم، وتجبرهم على الاتيان بمواطن القوة وإعادة بنائها أحدَ متطلّبات إعادة الإعمار الأشمل، وعندها ترتفع درجة الندّية السياسية، مع إدراك درجة الاحتياج الأساسي. ولكنّ التركيز الحصري على الاحتياج الأساسي الإنساني (على أهميته القصوى) سيعرّي الفلسطينيين من وكالتهم وفاعليّتهم السياسية، ويخضعهم بوصفهم متلقّين ثانويّين في عملية يتوجّب عليهم قيادتها. وهذا بالضرورة لا يقتصر على الفلسطينيين في غزّة فحسب، وإنما يتعلّق بالكلّ الفلسطيني وبالفلسطينيين كافّة؛ إذ إن جُلّ الخطط تسعى إلى حصر الفعل الفلسطيني الأوسع وشرذمة الهُويَّة الفلسطينية الأشمل، وهذا ما يتوجّب صدّه فعلاً مقاوماً لكلّ محاولات تشظية الفلسطينيين وتفتيتهم.
وعليه؛ يتوجّب على الفلسطينيين الانخراط بعملية مضادّة لما يفرض عليهم، وعدم التساوق والانصياع لشروط استعمار جديدة، وإن بدت في ظاهرها أقلَّ بشاعة. ونورد هنا نقاطاً للتفكير والتفاكر. فأولاً، ونتيجةً لإطار اتفاق أوسلو (1993) ومشتقّاته، ضعف الجسم والحقل السياسي الفلسطيني إلى مستويات خطيرة ساعدت المُستعمِر في السيطرة والانقضاض عليه. ومن هنا تأتي ضرورة أخذ الفاعلية السياسية الفلسطينية على محمل الجدّ، وترميم وبناء هذه الفاعلية السياسية بخطوات ملموسة وعينية تدعم الفلسطينيين في المضي في سبيل مقاومة الاستعمار ونيل الحرية، فهي ليست ترفاً زائداً أو خطوة طوعية، بل إنها خطوة استباقية وجوهرية من أجل إعادة بناء بعض مواطن القوة الفلسطينية للتصدّي لتغلغل القوة الاستعمارية. وثانياً، لم يعد مقبولاً بالمطلق أن يقتصر الحوار الداخلي الفلسطيني على أطراف لا تتمتّع بالشرعية أو التمثيل، أو على فصائل تستميت في إدامة الانقسام والتفتت الفلسطيني، فالحوار الوطني الفلسطيني الشامل والجادّ ليس اختياراً، وإنما هو إجباري واضطراري وملحُّ من أجل صياغة مستقبل مغاير. وعليه؛ يتوجب تغيير أطر وقنوات وأشكال وأدوات وأهداف الحوار، فالفشل المصاحب لهذه الحوارات على مدار العقدَين الماضيَين ما هو إلا مؤشّر بديهي على أن النموذج السائد لهذه الحوارات هو بعيد كل البعد من توحيد الفلسطينيين ولمّ شمل فكرهم ورؤيتهم وتنسيق فعلهم.
ثالثاً، وكأيّ عملية تغييرية، تشكّل عملية إعادة إعمار غزّة نقطةً مفصليةً في عملية إعادة تشكيل أشكال وبنى القيادات السياسية والتخطيطية والتقنية الفلسطينية. فإن لم يكن ذلك الآن، فمتى؟ أما رابعاً، فعملية إعادة إعمار غزّة وتخطيط مستقبلها تمثّلان “فرصةً” ضروريةً لإعادة الإعمار السياسي للسياسة والحوكمة الفلسطينية، وهذا لا يتعلّق بقطاع غزّة فحسب، وإنما يمتد بالضرورة إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتطلّب بلورة خريطة طريق جمعية لماهية النظام السياسي الفلسطينيّ، ومؤسّساته التمثيلية وقيادته ورؤيته. فإعادة الإعمار السياسي تشكّل شرطاً استباقيّاً آخر لا يحتمل التأجيل أو الإنكار إن كان الهدف هو الحرية والانعتاق. خامساً، لا تُختصَر فكرة الملكية الفلسطينية في قيادة عملية إعادة الإعمار، وإنما تمتدّ أيضاً إلى فكرة الملكية الفلسطينية على رؤيتها للمنطقة المتغايرة. فالعيون والعدسات الفلسطينية المستقلّة، غير الخاضعة لرؤية ومصالح بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين، هي المطلوبة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. فالمنطقة بأسرها تتغيّر باضطراد، والحسابات الإقليمية تتباين، والمعطيات تتغيّر والنتائج تتبدّل، وبذلك يتوجّب على الفلسطينيين تشكيل قراءة مغايرة للمنطقة، وإن كان الوزن الاستراتيجي لهذه القراءة هامشياً ضمن المعادلة الأكبر، ولكنّه يعكس إرادة سياسية لرسم المستقبل بدل العيش في تبعات مستقبل يرسمه آخرون، بمن فيهم القوة الاستعمارية التي تسيطر عليهم.
الربط العضوي بين الإنسان والمجتمع والسياسة يفرض نفسه بقوة أكبر تحت شرط استعماري
سادساً وأخيراً، أيّ تهميش لدور المجتمع المدني في رسم المستقبل لغزّة وما بعدها، لن يجلب إلّا مزيداً من الضعف والهوان والتشرذم والتفتّت، ليس على الصعيد المجتمعي فحسب، وإنما على الصعيد السياسي أيضاً. ويجدر في هذا الصدد تذكّر وتسليط الضوء على دعوة فاعلي المجتمع المدني الفلسطيني في مارس/آذار 2025 بما يخصّ خطط إعمار غزّة، ورسم مستقبلها، والتي دعت (من جملة ما دعت إليه) إلى ضرورة دعم الصمود الفلسطيني أولويةً وآليةً قويةً في مقاومة التهجير القسري، وإلى تشكيل جبهة فلسطينية موحّدة من أجل تحقيق المصالحة والوحدة الفلسطينية، وتشكيل آلية وطنية مؤقّتة لإدارة عمليات التعافي والإغاثة العاجلة في غزّة، وفتح المسار الفوري أمام قيادة فلسطينية منتخبة ضمن إطار ديمقراطي، وإنشاء آلية دولية داعمة لا وصائية لمرافقة العملية التغييرية، والضغط باتجاه الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزّة، وفرض العقوبات ومحاسبة مجرمي الحرب، وضمان السيادة والإرادة الفلسطينية وحقّ تقرير المصير، ومعالجة الأسباب الجذرية لإنهاء دوامة الدمار.
تتجلّى أهمية الربط العضوي والمتداخل ما بين الإنسان والمجتمع والسياسة في أيّ عملية إعادة إعمار، ولكنّها تفرض نفسها بقوة أكبر في ظلّ العيش تحت شرط استعماري، خاصّة إذا كان المبتغى هو “تجميل وتطبيع” هذا الاستعمار. فمقاومة هذا المُبتغى هي جزء من عملية إعادة بناء مواطن القوة للقابعين تحت الاستعمار.

