الخلافات العلنية الدائرة في إسرائيل بين القيادة السياسية بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وبين قيادة الأجهزة الأمنية متمثلة في الجيش، وجهاز المخابرات الخارجية (الموساد)، وشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش (أمان)، وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، هي أكبر بكثير من قضية احتلال أو عدم احتلال مدينة غزة وبقية المواقع في القطاع.
هي في الواقع خلافات قديمة شبيهة بحرب داحس والغبراء في عصر الجاهلية؛ لما تنطوي عليه من عمليات ثأر واقتتال. وإن كان لغزة مكان فيها، فهو مكان تدفع فيه وأهلها ثمناً باهظاً لهذه الحرب، ناهيك عن الثمن الذي يدفعه المحتجزون لدى حركة «حماس» والجنود والمواطنون الإسرائيليون عموماً.
فعلى مدى نحو 15 عاماً، دارت رحى هذه المعركة وراء الكواليس، وشهدت الكثير من الضربات المتبادلة «تحت الحزام»، وحرص الطرفان على إخفائها عن أعين الجمهور والصحافة. وعندما كانت تتسرب معلومات عنها هنا أو هناك، كان الطرفان يشتركان في نفيها وتفنيدها.
لكنها في السنوات الأخيرة باتت مكشوفة، واتخذت طابعاً عقائدياً، يتجاوز حدود الاختلاف السياسي والتقني والاجتهاد.
البدايات
بدأت شرارة حرب خفية بين نتنياهو وقادة الأجهزة الأمنية في عام 2010، عندما طلب من الجيش أن يستعد لضرب إيران وإحداث شلل في مشروعها النووي، فأجابوه بأن الجيش غير جاهز لضربة كهذه ستتحول حرباً إقليمية، وأن الأمر يتطلب مقدرات عسكرية كبيرة، وميزانية ضخمة، وأسلحة حديثة، وقنابل ذكية وموافقة أميركية. ونجح نتنياهو في كسب تأييد وزير دفاعه حينذاك، إيهود باراك.
لكن باراك، وهو ابن المؤسسة العسكرية، الذي يحمل أرفع وأكثر الأوسمة تقديراً للعمليات التي قادها عبر السنين «وراء خطوط العدو»، تراجع في مرحلة ما وعدل عن موقفه ليصبح في خندق الأجهزة الأمنية.
وراح باراك يسعى لتخصيص موارد مالية لتمويل الإعداد لهذه الضربة.
وبحسب إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الأسبق، «تم تخصيص 11 مليار شيقل (3.5 مليار دولار) لهذا الغرض، لكن تبين أنها صُرفت هباء؛ لأنه لم يكن جاداً في نية ضرب إيران»، وفقاً لما ورد في صحيفة «هآرتس» في 11 يناير (كانون الثاني) 2013.
وتواصلت المعركة بين الطرفين: الحكومة برئاسة نتنياهو، وأجهزة الأمن التي تبدل عليها كثير من الجنرالات الذين كانت الحكومة تختار كل واحد منهم على أمل أن يكون بينهم مُوالٍ لها. لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال. فالمؤسسة العسكرية حرصت دائماً على الاتجاه الاستقلالي، بدعوى الضرورة المهنية.
المعركة العقائدية
قبل ذلك بسبع سنوات، انطلقت شرارة معركة أخرى بدأت سياسية ثم تحولت عقائدية.
حصل ذلك في أعقاب قيام الحكومة برئاسة الجنرال أرئيل شارون بالانفصال عن قطاع غزة في سنة 2005. فقد انسحب شارون من القطاع وأخلى 21 مستوطنة كانت تضم 8800 مستوطن. وفعل ذلك بالقوة.
وقد أفزع هذا الانسحاب المستوطنين في الضفة الغربية، خصوصاً وأن شارون أخلى أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية أيضاً. لذلك حضر 40 ألفاً منهم إلى غزة يحاولون منع الانسحاب بالقوة، وفرَّقتهم قوات الشرطة والجيش. وبعد ستة شهور حاول المستوطنون إقامة بؤرة استيطان في عمونة، شرق رام الله. وهنا أيضاً أقدم الجيش على إخراجهم بالقوة.
حينها، أقدم اليمين العقائدي على تشكيل تيار فكري يعمل على منع تكرار إخلاء المستوطنات في الضفة الغربية، والعمل على وضع خطة مضادة لتثبيت الاستيطان وتوسيعه.
وأسست المجموعة التي أنشأت هذا التيار معهد أبحاث أُطلق عليه «كوهيلت»، بتشجيع وتمويل من اليمين الإسرائيلي والأميركي، ما زال يشكل مرجعية فكرية لمؤسسات الاستيطان ولأحزاب اليمين والحركة الصهيونية الدينية.
وخلص قادة المعهد إلى أن السبيل الوحيد لتحقيق هدفهم هو تشكيل حكومة يمين كامل، أي من دون أحزاب ليبرالية أو يسارية، تبقى في الحكم سنين طويلة، وتعمل على تشكيل وعي يهودي عميق لا يسمح بالانسحاب من الضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية.
خطة للانقلاب على المنظومة
وبما أن هناك تشكيلة واسعة من الأحزاب في إسرائيل، والانتخابات تجري مرة كل أربع سنوات، وفي كثير من الأحيان تجري انتخابات مبكرة في فترات أقصر، فقد وضع هذا التيار خطة للانقلاب على منظومة الحكم تُحدِث تغييرات جوهرية في القوانين وتُضعِف تأثير جهاز القضاء.
وقد استغل هذا التيار جيداً نقاط ضعف التيار الليبرالي، وانقلاب حركة «حماس» على الحكم في قطاع غزة، والصواريخ التي كانت تطلقها باتجاه إسرائيل، ليبرر انقلابه هذا. ووضع في سنة 2017 خطة لإحباط إقامة الدولة الفلسطينية، نُشرت باسم بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الحالي، وأسماها «خطة الحسم».
ويتولى سموتريتش أيضاً منصب «وزير ثان في وزارة الدفاع»، ومن خلاله يدير ملف الاستيطان ويسعى لضم الضفة الغربية لإسرائيل.
واتخذ هذا التيار موقفاً عدائياً من الجيش والمخابرات. وإذا كان دوره في الماضي هامشياً في الحياة السياسية، فقد أصبح اليوم شريكاً مؤثراً في الحكم. والتقت مصالحه مع مصالح نتنياهو، الذي يضع في رأس اهتمامه البقاء رئيس حكومة حتى يقوّي مكانته أمام القضاة الذين يديرون محاكمته في قضايا الفساد.
وتولى قادة هذا التيار في الحكومة، وهم سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزيرة الاستيطان يهوديت ستروك، مهمة تقريع قادة الجيش. وبعد صدامات علنية عدة في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينت)، صاحوا خلالها في وجه قادة الجيش وغيرهم من رؤساء الأجهزة الأمنية ووجهوا لهم الإهانات، نجحوا في إطاحة رئيس أركان الجيش هيرتسي هاليفي، ورئيس «الشاباك» رونين بار هذا العام.
واختير لرئاسة الأركان إيال زامير، بعدما تعهد بالولاء للقيادة السياسية، علماً بأنه صاحب تجربة في العمل مع السياسيين؛ إذ تولى من قبل منصب السكرتير العسكري لرئيس الحكومة نتنياهو، ثم مديراً عاماً لوزارة الدفاع. وكان من أولى عملياته التصعيد في غزة في مارس (آذار) الماضي، ثم حرب الـ12 يوماً على إيران في يونيو (حزيران)، ثم وضع خطة لاحتلال غزة.
فكيف انقلب زامير؟
الواقع أنه لم ينقلب البتة، فهو أثبت أنه موالٍ للحكومة منذ اليوم الأول، وممارساته في قطاع غزة أكثر بطشاً من سابقه، بل ولديه اليوم خطة لاحتلال رفح، لكن الحكومة رفضتها قائلة إنه لا مانع في احتلال مدينة غزة ورفح معاً.
المشكلة هي أن القيادة السياسية، خصوصاً التيار المتطرف فيها، كانت تطمع بقبضة حديدية أشد بطشاً بكثير، تريد احتلالاً كاملاً. وهو لا يعترض، إنما يقول إن هذا الاحتلال سيؤدي إلى مقتل عدد من المحتجزين وربما يتسبب في اختفائهم جميعاً، مثلما حدث مع رون أراد، الطيار الإسرائيلي الذي اختفت آثاره بعد أسره حياً في لبنان سنة 1986 وقيل إنه قُتل ولم يُعرف مكان دفنه حتى اليوم. ويقول كذلك إن احتلالاً كهذا سيؤدي إلى مقتل جنود وضباط، وسيتحول مصيدة موت وكميناً استراتيجياً.
وتصريحاته هذه لا تعني بالضرورة تهرباً من العملية، بل يريد أن يكون واضحاً فيما يتعلق بمن تقع عليه المسؤولية. فهو يعرف الثمن جيداً، ويطلب من الحكومة أن تتحمل المسؤولية مسبقاً.
ولماذا يفعل ذلك؟ لأنه يخوض تجربة مريبة مع القادة السياسيين في هذه الحكومة. ففي الاجتماعات معهم، يناقشه وزراء لم يخدموا في الجيش وليست لهم دراية بالعمل العسكري في خططه على الأرض، ويرفضونها ويطالبونه مرة تلو الأخرى بتعديلها. وعندما يستغرب او يعترض يتهمونه بالجبن.
وفي الجلسات كانوا يصيحون في وجهه ويوجهون له كلمات مهينة. وسرَّبوا إلى الإعلام أنه ينوي الاستقالة. وعندما نفى ذلك، سرَّبوا خبراً آخر يقول إن الحكومة تدرس إمكانية تعيين جنرال قديم يشرف على عمل هيئة الأركان؛ ما جعل الصحافة تعلّق بسخرية: «يريدون رئيساً لرئيس الأركان».
لكن زامير واصل تحدي القيادة السياسية وخرج بتصريحات متكررة عن ضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وإطلاق سراح المحتجزين.
وبحسب مصادر إعلامية مقربة من الجيش، فإن التغيير في لهجة زامير يعود إلى الواقع الذي اصطدم به على الأرض. ففي لقاءاته مع الجنود والضباط في الميدان اكتشف أن الجيش يحتاج إلى وقفة يراجع فيها وضعه وآلياته وأسلحته ويريح كوادره ويعالج المصابين نفسياً في صفوفه ويوقف الملاحقات لضباطه في دول العالم المختلفة. وبدأ يسمع للجنود الذين يتحدثون عن أزمات عنيفة داخل الجيش.
«الوحل الغزي»
وهذا الأسبوع، كتب المحلل العسكري عاموس هرئيل في صحيفة «هآرتس»: «الضغوط التي يمارسها المستوى السياسي على الجيش من أجل تحقيق نتائج، ومحاولات دفعه إلى عمليات إشكالية داخل اكتظاظ سكاني، بات يفاقم التوترات داخل الجيش الإسرائيلي».
كما كتب البروفسور ياغيل ليفي (67 عاماً)، أحد كبار الباحثين في موضوع «أثر الجيش على مبنى قوة المجتمع» في مقال نشرته «هآرتس»، الأحد: «الوحل الغزّي يذكّر كثيراً بوحل فيتنام، وربما يشبهه أيضاً في ظروف الخروج منه». وأضاف: «في إسرائيل كانت هناك حالتان بارزتان نجحت فيهما المعارضة الشعبية للحرب في فرض انسحاب للجيش: من لبنان عام 1985، ومرة أخرى عام 2000. لم ينبع هذا النجاح من جدل حول منطق الحرب السياسي أو عدالتها، بل من التركيز على الثمن البشري، أي حياة الجنود. القدرة على تحويل ذلك تهديداً مباشراً لقدرة الجيش على القتال هي التي صنعت الفارق».
ومضى قائلاً: «بالفعل ظهرت مؤشرات تآكل داخلي دفعت الجيش إلى تأييد الانسحاب، أو على الأقل إلى التسليم به. فالجيش، في نهاية الأمر، ليس شغوفاً بالحرب ولا بالسلام، وإنما هو شديد الحساسية تجاه مصالحه المؤسسية والتنظيمية. وهذا هو المفتاح أيضاً في غزة. فالحرب لا تثير معارضة بسبب غياب منطقها السياسي أو ضعف أخلاقيتها أو حتى العدد المحدود نسبياً من القتلى في صفوف الجنود، بل فقط بسبب الخطر الذي تشكّله على حياة الأسرى. هذا يكاد يكون الدافع الوحيد الذي دفع عشرات الآلاف للخروج إلى الشوارع في يوم الإضراب الأخير. ومع ذلك، يظل تأثير هذا الاحتجاج محدوداً على الحكومة. فالأثر الحقيقي لا يمكن أن يتولّد إلا إذا برز تهديد مباشر لوحدة الجيش وتماسكه».
واستطرد: «التفكك الداخلي في صفوف الجيش بلغ مستويات أعمق مما يدركه الرأي العام بفضل القدرة على إخفائه وابتكار حلول مؤقتة، خصوصاً على المستوى الميداني، وبالاعتماد على رصيد القوى البشرية المخلصة للصهيونية الدينية. ومع ذلك، يتواصل هذا التفكك، وفيه يكمن مفتاح إنهاء الحرب».
وأشار إلى أن هذا التفكك قد يتجلى في تزايد أعداد الطيارين الذين يمتنعون عن قصف غزة، أو في التراجع الحاد في معدلات الالتحاق بخدمة الاحتياط بحيث لا تعود حتى الحلول الارتجالية واستحضار البدائل قادرة على سد الفجوة، أو في رفض جنود الخدمة الإلزامية والاحتياط تنفيذ مهام «شديدة الخطورة لكنها بلا جدوى».
مثل هذه اللهجة تزعزع قيادة الجيش وبقية أجهزة الأمن وتقلقها… فالأزمة أعمق من موضوع غزة. وفي أزمة كهذه، ليس من الطبيعي أن يدير الجيش مزيداً من الحروب.