رؤية 2030 أحيت التراث من جديد.. وعام الحرف اليدوية حلم وتحقق
وسط محل تراثي يستعد لافتتاح أبوابه قريبًا في جدة، كان صوت “الإزميل” ينساب بإيقاع ثابت، ينسج تفاصيل رواشين خشبية بنقوش دقيقة تحاكي روح التراث الحجازي… في إحدى زوايا المحل، وقف باسم بن عبيد، نجّار التراث، منصرفًا إلى عمله، ينحت بإتقان على قطعة خشبية ستصبح جزءًا من هوية المكان… “أخبار 24” التقاه هناك، حيث كان يعمل على إنجاز هذا المشروع الذي يتماشى مع فلسفة المكان في تقديم كل ما هو تراثي وإبداعي.
رؤية فنية بلمسة تاريخية
صاحب المحل، محمد فقيه، أراد أن يكون مختلفًا، متجرًا يحمل هوية المكان والزمان، فاختار أن يبني جدرانه بالحجر المنقبي ويزينه بالرواشين والنقوش الخشبية اليدوية، ولتنفيذ هذا الطابع التراثي، بحث عن أفضل مَن يمكنه تجسيد هذه الرؤية، فوقع اختياره على باسم بن عبيد، النجّار الذي ورث المهنة عن والده وأتقنها منذ أكثر من 35 عامًا.
يقول باسم وهو يمرر أنامله على أحد الرواشين التي أتمّها حديثًا: “كل قطعة هنا ليست مجرد ديكور، بل جزء من ذاكرة جدة القديمة”. ويضيف: “بدأت رحلتي مع النجارة عام 1985، عندما كنت في العاشرة من عمري، أراقب والدي وأساعده في الورشة، وكانت مهمتي مناولة الأدوات مثل الشاكوش، والقدوم، وسراق الليل”.
بين تراجع المهنة وازدهارها
مع تقدمه في العمر، أصبحت النجارة شغفه وحرفته، لكنه واجه تحديات كادت أن تدفعه لترك هذا المجال. في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية، تراجع الإقبال على الأعمال التراثية، ولم يعد كثيرون يهتمون بالرواشين والنقوش الخشبية، ما جعله يفكر جديًا في البحث عن مصدر دخل آخر.
يتذكر باسم: “كنا نعمل للحفاظ على ملامح بيوت جدة القديمة، لكن الناس لم يعودوا يهتمون بها كما في السابق، كادت المهنة أن تندثر، حتى جاءت رؤية 2030 ودعم وزارة الثقافة، وأحيت التراث من جديد، واليوم نشهد عامًا استثنائيًا، عام الحرف اليدوية، الذي كنا نحلم به منذ عقود”.
جدة التاريخية.. حيث يروي الخشب حكاية المدينة
بعد أن أنهى باسم أعماله في المحل، انتقلت عدسة “أخبار 24” معه إلى قلب جدة التاريخية، حيث شاركنا في جولة بين البيوت التراثية التي وضع بصمته عليها، في “بيت باعشن”، أحد أعرق بيوت المنطقة، وقف يشير بفخر إلى الرواشين التي عمل عليها قبل سنوات، قائلاً: “هذه القطع صمدت أمام الزمن، لأنها صُنعت بالطريقة نفسها التي كان يعمل بها أجدادنا”.
في جدة البلد، شارك باسم في ترميم العديد من المنازل والمباني التراثية، مستخدمًا تقنيات نجارة تقليدية توارثها عن أساتذة الحرفة، مثل (العم ذاكر، والسيد حسين صدقة جاوي)، الذين تعلموا بدورهم من أجيال سبقتهم… اليوم يسعى باسم إلى توثيق هذه الأساليب في كتاب، ليكون مرجعًا للأجيال القادمة، خاصة وأن هذه الحرفة لم تُدوّن يومًا في كتب، بل انتقلت شفهيًا من نجار إلى آخر.
الحلم الذي تحقق بعد 30 عامًا
يعود باسم بذاكرته ليتحدث عن اهتمام الناس بالحرفة وكيف تغيرت في السنوات الأخيرة: “قبل ثلاثين عامًا، كنت أتساءل: متى سيعرف الناس قيمة هذه الأعمال؟ اليوم، نجد اهتمامًا غير مسبوق بالحرف اليدوية، وهذا ما يجعلني متفائلًا بأن الرواشين ستبقى جزءًا من هوية جدة لعقود قادمة”.
باسم بن عبيد ليس مجرد نجار، بل حارس لذاكرة المدينة، يعيد تشكيل التاريخ قطعةً بعد أخرى، ليحكي من خلال الخشب قصة جدة التي لا تموت.