
كتب د. عبدالله أحمد آل علي في صحيفة الخليج.
في تصريحه الذي حمل بين طياته ملامح تحوّل حقيقي، أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان استعداد بلاده لـ«فتح صفحة جديدة» مع مجلس التعاون الخليجي، في لحظة إقليمية مشحونة يمر بها الخليج العربي، لحظة يمكن وصفها من دون مبالغة بأنها لحظة مفصلية تحمل بين جنباتها إما ميلاد نظام تفاعليٍّ مستقر ومنتظم، أو انتكاساً جديداً يعمّق الاستقطاب ويفاقم الأزمات.
هذا التصريح ليس عادياً، بل يعكس تحوّلاً في المقاربة الإيرانية، قائماً على فهم أكثر واقعية للتحديات البنيوية التي تواجه النظام الإقليمي برمّته. فبعد عقود من التوترات، والحروب بالوكالة، وتآكل جسور الثقة، فإن مجرد الإعلان عن الاستعداد لفتح صفحة جديدة، يمثل إعادة تموضع سياسي ورسالة استراتيجية مفادها أن الرهان على التهدئة والتعاون أصبح أكثر نجاعة من الاستثمار في صناعة التوتر.
منطقة الخليج العربي لم تعد تحتمل مزيداً من الصراعات المؤجلة والمقاربات الصفرية. فقد أظهرت الأحداث الأخيرة، من حرب غزة المتفجرة إلى المواجهة المحدودة بين إسرائيل وإيران، ومن ثم الاشتباك الفارق مع الولايات المتحدة الأمريكية، أن أمن الإقليم بات مرتبطاً عضوياً ببعضه بعضاً، وأن منظومة الأمن الجماعي يجب أن تتجاوز منطق المحاور والصراعات المذهبية، وتتجه نحو صيغة عقلانية تُعلي من قيمة المصالح المشتركة لا الهواجس التاريخية.
إن الدرس العصيب الذي مرت به المنطقة من اضطرابات العراق وسوريا واليمن، إلى هشاشة سوق الطاقة العالمية، والتحديات الاقتصادية يكشف أن لا أحد يستطيع تحمّل كلفة الإقصاء أو المكابرة. بل إن الحتمية الجغرافية والتشابك الاقتصادي يحتّمان بناء منظومة علاقات جديدة، تقوم على «تنازل مؤلم» من كل الأطراف، تنازل لا يعني الضعف بل شجاعة الإقرار بالحاجة إلى الآخر لضمان الاستقرار والازدهار المشترك.
لكن الواقعية السياسية تقتضي ألا يكون فتح الصفحة الجديدة مجرد إعلان نوايا، بل مساراً شجاعاً يتناول الملفات العالقة بمنهج مسؤول وواضح، وفي مقدمتها ملف الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران، وملف ترسيم الحدود البحرية في الخليج العربي، وهي قضايا جوهرية تختبر صدقية التحول الإيراني المعلن. كما يشمل هذا المسار نقاشاً صريحاً حول دور إيران الإقليمي في ملفات اليمن وسوريا ولبنان، وإعادة تقييم دعمها السياسي والعسكري لقوى خارج نطاق الدولة في تلك الدول.
إن معالجة هذه القضايا لا تعني التفريط، بل استثمار اللحظة التاريخية لصياغة حلول متوازنة تحفظ السيادة، وتعزز الاستقرار الإقليمي، وتُمهّد لمرحلة بناء الثقة عبر آليات دبلوماسية ثنائية ومتعددة الأطراف، تحت مظلة القانون الدولي والاحترام المتبادل. بهذه الروح الواقعية، يمكن للصفحة الجديدة أن تتحول من مجرّد تصريح إلى عقد سياسي جديد تتجه إليه المنطقة.
وتحقيق هذا التحوّل يتطلب تعاوناً دبلوماسياً جماعياً من دول مجلس التعاون الخليجي في التعامل مع إيران ككتلة استراتيجية، قادرة على التفاوض كندّ وشريك متوافق ومرن، لا كمجموعة متباينة المصالح. فمن خلال بلورة موقف موحد، يمكن للمجلس أن يُعيد صياغة أولويات العلاقة، لتنتقل من ملفّات الأمن إلى برامج التنمية، ومن الحذر إلى التوازن، ومن ردّ الفعل إلى الشراكة الاستباقية.
ولا يمكن فصل هذه اللحظة عن السياق الدولي. فالعالم يتجه إلى نظام متعدد الأقطاب، وتزداد أهمية الممرات الاستراتيجية واحتياطيات الطاقة، ما يجعل الخليج ساحة تنافس عالمي. من هنا، فإن تحويل المنطقة إلى منصة جاذبة للشراكات العابرة والقائمة على المصالح المتبادلة، يتطلب بيئة سياسية مستقرة واتفاقات موثوقة، تكون فيها إيران طرفاً فاعلاً متناغماً لا خصماً دائماً.
في الختام، إننا أمام لحظة اختبار حقيقي للنضج السياسي في الخليج العربي. والرابح لن يكون من يرفع سقف الشروط، بل من يُحسن قراءة التحولات ويمتلك الجرأة على التغيير. لعلها تكون الصفحة الجديدة التي طال انتظارها، والتي تبدأ بالحوار، وتُبنى على التفاهم، وتُثمر أمناً مشتركاً وتنمية مستدامة لكل شعوب المنطقة.