كتب أوين ماثيوز, في اندلندنت عربية:
لا يتمتع الكرملين بنفوذ على أي دولة أكبر من بيلاروس الصغيرة، لكن بوتين عثر لنفسه على دور جديد كمساعد وتابع مفيد لقوة عالمية عظيمة وناشئة، وهو مصمم على كسر العزلة التي فُرضت عليه منذ أعوام قليلة فقط
بوتين، على رغم العزلة الغربية بعد غزو أوكرانيا، أعاد ترسيخ حضوره الدولي عبر تحالفات اقتصادية وسياسية مع قوى ناشئة كالصين والهند، مستغلاً موارد الطاقة والنفوذ العسكري لتحقيق هدفه في جعل روسيا عظيمة مجدداً، ولو على حساب اقتصادها واستقلالها السياسي.
كان من المفترض أن يتحول فلاديمير بوتين بعد اجتياحه أوكرانيا إلى شخصية منبوذة في العالم المتحضر، وتُفرض عليه عزلة اقتصادية ويعيش في حال من الخوف من المثول أمام المحكمة في لاهاي على خلفية ارتكابه جرائم حرب. في مارس (آذار) 2022، قالت كايا كلاس التي كانت تشغل عندها منصب رئيسة وزراء إستونيا للقادة الأوروبيين المجتمعين في لندن إن “هدفنا هو عزل بوتين بشكل كامل”. لكن عوضاً عن العزلة، يُستقبل بوتين اليوم بحفاوة من قبل دونالد ترمب وشي جينبينغ، ويتودد إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. وفي الوقت الذي ما زالت الصواريخ الروسية تنهمر فيه على المدن الأوكرانية، يبدو أن السجاد الأحمر يُفرد لبوتين كل أسبوع تقريباً.
تعليقاً على هذا، يتساءل مايكل ماكفول، الذي شغل منصب السفير الأميركي لدى موسكو في عهد باراك أوباما “كيف نجح ترمب في إقصاء مودي لدرجة دفعته إلى حضور اجتماع قمة برفقة شخصيات استبدادية مثل شي وبوتين؟ فالعام الماضي فقط كانت الصين والهند تتحاربان!”.
ويجيب ماكفول بنفسه على السؤال قائلاً “إن ترمب وفريقه لا يجيدون العمل الدبلوماسي بكل بساطة”.
وفي الواقع، فإن تبني البيت الأبيض الرسوم الجمركية الشاملة باعتبارها أداةً للسياسة الخارجية على نحو يعارض السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الولايات المتحدة على مدى عشرات الأعوام، قد دفع فعلاً بالصين وروسيا والبرازيل والهند إلى توثيق التحالف بينها بصورة متزايدة.
لكن التفسير الثاني، والأشد إقناعاً، هو أن بوتين يتربع على عرش الفنون المظلمة في مجال إدارة شؤون السياسة الدولية. لا يكترث بوتين بالمبادئ السامية. وقد عتق نفسه من ضرورة تبرير الأضرار الاقتصادية التي يلحقها ببلاده للناخبين أو من ضرورة الدفاع عن نفسه في وجه أي معارضة.
فلا يعنيه أمر تدمير أسواق الغاز التي يصدر لها في أوروبا الغربية، ولا التسبب بفرار آلاف الشركات الأجنبية من بلاده ولا حرمان روسيا من الاستثمارات الدولية. بل يركز على عقد التحالفات حيث أمكن، بدءاً بحركة “طالبان” في أفغانستان ووصولاً إلى الملالي في إيران وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية. وفي ما يتعلق بالدول غير المنبوذة مثل الصين والهند، فيقدم لها بوتين بكل بساطة إغراءات اقتصادية كي تصبح صديقة موسكو.
خذوا مثالاً الهند التي تضاعف حجم وارداتها من النفط الروسي الخام خمس مرات منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. ما سبب ذلك؟ إنها التخفيضات الدسمة التي وفرت على مصافي التكرير الهندية ما يقدر بـ12.6 مليار دولار، واستحدثت صناعة جديدة من خلال تكرير الخام الروسي الذي رفضته أوروبا الغربية وإعادة بيعه لأولئك الأوروبيين أنفسهم.
وحظيت الصين أيضاً بدفعة إلى الأمام بفضل وصولها إلى النفط الروسي وقد زادت صادراتها من السلع الإلكترونية والسيارات وغيرها من السلع إلى روسيا بأكثر من الضعف. ومن خلال إبرام صفقة طال انتظارها مع شركة الطاقة الروسية غازبروم لبناء خط الأنابيب “قوة سيبيريا-2” الممتد عبر 2400 كيلومتر والذي يربط شبه جزيرة يامال في القطب الشمالي ببكين، حقق الرئيس شي إنجازاً كبيراً جديداً.
لكن روسيا، وليس الصين، هي من تتحمل تكاليف البناء الضخمة. كما أن سعر الغاز على المستهلك الصيني سيكون قريباً من سعر الجملة المحلي في روسيا، أي أقل بكثير من أسعار السوق الدولية وجزءاً بسيطاً من الثمن الذي اعتاد المستهلك الأوروبي دفعه.
لكن لا يهم. فكل ما يهم بوتين هو “جعل روسيا عظيمة مجدداً”، مهما كلف ذلك من دماء وثروات. وتمثل مكانة بوتين الشخصية التي تنعكس عبر البذخ الاستعراضي في المؤتمرات الدولية الكبرى والاستعراضات العسكرية وطالبات المدارس اللواتي يلوحن بالأعلام في المطار والعناق الحار مع قادة العالم، جزءاً كبيراً من تلك العظمة.
إضافة إلى شي ومودي- اللذين قضى بوتين زهاء ساعة برفقتهما داخل سيارته الليموزين من طراز أوريس الروسي- عقد بوتين اجتماعات مع الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والإيراني مسعود بزشكيان ورئيس الوزراء الفيتنامي فام مينه تشين. وطبعاً، منذ أسبوعين فقط، كان بوتين يتبادل الكلام اللطيف مع دونالد ترمب ويصافحه بقوة، حين كان الأخير يأمل بإغرائه كي يبتعد عن بكين. ليست نتيجة سيئة لزعيم تنبذه أوروبا دبلوماسياً منذ عام 2022.
لا يخفى على أحد أن شي، وليس بوتين، هو النجم الحقيقي في هذا العرض الذي بدأ باجتماع قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين واختتم باستعراض عسكري يحتفل بذكرى مرور 80 عاماً على هزيمة اليابان. لكن الاحتفال لم يقتصر على استعراض الجيش الصيني الكبير بل أيضاً على طموحات شي بالتحول إلى قوة عظمى فيما جُمع قادة آخرون مثل بوتين ومودي وغيرهم كضيوف مرموقين في بلاط الإمبراطور.
في الحقيقة، بينما تعتبر الهند والصين حقاً قوتين اقتصاديتين عظميين، فإن بوتين هو القزم الجالس إلى الطاولة، حرفياً ومجازياً على حد سواء. بعد ثلاثة أعوام من القتال، يسجل الاقتصاد الروسي الربع الثاني على التوالي من الانكماش الاقتصادي. صحيح أنه لا يمكن اعتبار ذلك أزمة اقتصادية أبداً بعد، إلا أنه من الواضح أيضاً أن الحرب والعقوبات الاقتصادية الغربية قد وضعت روسيا تحت رحمة دلهي وبكين اللتين تمسكان معاً بمصير اقتصاد بوتين وجهده الحربي.
لكن إجمالاً، شهدت الأيام الأخيرة تحولاً رمزياً. فالصين ترسخ دورها القيادي لمجموعة من أكثر دول العالم كثافةً سكانية وأسرعها نمواً. ومع أن الرسوم الجمركية الأميركية تقوض اقتصاد بلاده على المدى القصير، إلا أن شي يراهن على المدى البعيد. ويقول عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة فودان في شنغهاي شينبو وو، “إن الولايات المتحدة تعين الصين على زيادة نفوذها حول العالم. ربما تعاني الصين من الرسوم الجمركية الأميركية لكنها تكسب تعاطفاً ودعماً أكبر من الناحية السياسية من دول أخرى، وليس فقط من الجنوب العالمي”.
خلافاً لوضعها في أوج الشيوعية، ما عادت روسيا ذات ثقل اقتصادي كبير ولا تحمل عقيدة عالمية تقدمها للعالم. لكن بوتين يمتلك موارد طاقة زهيدة الثمن يوزعها على أصدقائه وبحوزته ترسانة نووية ويمكنه استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لا يقود الكرملين منفرداً أي أحد ولا يؤثر في أي دولة أكبر من بيلاروس الصغيرة. لكن بوتين عثر لنفسه على دور جديد كمساعد وتابع مفيد لقوة عالمية عظيمة وناشئة.