
في كل صباح، يخرج اللبناني من منزله ليواجه معركة غير متكافئة على الطرقات. أصوات الأبواق، الفوضى، التعديات، غياب الإشارات، وسلوكيات سائقي “الفانات” والسيارات والدراجات النارية التي تشبه سباقات السرعة أكثر منها تنقلاً يومياً. ومع كل حادث سير، يطرح السؤال ذاته: لماذا لا تضع وزارة الداخلية خطة شاملة للحد من الحوادث المرورية؟ ومن يمنع فعلياً قيام مثل هذه الخطة؟
يبدو واضحاً أن المشكلة لا تكمن فقط في نقص التمويل أو الإمكانات التقنية، بل في غياب الإرادة السياسية الحقيقية. فوزارة الداخلية، المسؤولة المباشرة عن السلامة المرورية عبر قوى الأمن الداخلي وهيئة إدارة السير، تبدو عاجزة حتى الآن رغم المحاولات الكثيرة التي تقوم بها لوضع خطة متكاملة لهذا الغرض، وكانت آخر المحاولات امس الاول.
من أبرز المعضلات البنيوية التي تعيق المعالجات هي تداخل الصلاحيات بين أكثر من جهة: وزارة الداخلية، وزارة الأشغال العامة والنقل، البلديات، وقوى الأمن الداخلي. كل طرف يمتلك جزءاً من السلطة، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية الكاملة. فحين يُطرح مشروع لتحديث إشارات السير مثلاً، يتوقف التنفيذ على التمويل من وزارة المالية، والموافقة من الأشغال، والمواكبة من الداخلية. وفي ظل غياب التنسيق، تتبخر الخطط بين المكاتب.
انطلاقا من هنا لا يمكن القول إن لبنان يفتقر إلى القوانين المرورية الحديثة. فهناك قانون تضمن وضع أسساً صارمة للسلامة على الطرق، وحدد العقوبات بوضوح. لكن المشكلة تكمن في التطبيق الانتقائي والرقابة المتراخية. فمخالفات السرعة والسير عكس الاتجاه تُسجّل يومياً، من دون أي رادع فعلي. وحتى نظام النقاط الذي كان يُفترض أن يغيّر سلوك السائقين، تحوّل إلى نصوص حبرٍ على ورق.
والحديث عن السير في لبنان لا يكتمل من دون التطرّق إلى الفساد البنيوي الذي يطال كل مفصل من مفاصل القطاع. من رخص السوق التي تُستحصل عليها بالمحسوبيات، إلى السيارات غير المسجّلة التي تتجوّل بحرية، وصولاً إلى غياب الرقابة على مراكز الميكانيك التي كانت ملزمة. هذه المنظومة من الفساد تحوّلت إلى شبكة متكاملة تمنع أي إصلاح جدي، لأنّ إصلاح السير يعني كسر مصالح راسخة.
ويكفي للحد من الحوادث التي غالبا ما توقع ضحايا او جرحى، والمخالفات، ان يتم إنشاء غرفة تحكم مركزية ذكية لإدارة السير، تفعيل المراقبة بالكاميرات، فرض غرامات إلكترونية، تنظيم النقل العام، وتحديث البنى التحتية. لكنّ أي خطوة في هذا الاتجاه تحتاج إلى قرار سياسي جريء وإرادة تنفيذية صلبة، وهو ما تفتقر إليه السلطة الحالية المنشغلة بصراعاتها الداخلية أكثر من اهتمامها بأرواح المواطنين.

