كتب جورج كعدي في صحيفة العربي الجديد.
لستُ أدري من أين يستمدّ بعض العرب، وبالأخصّ بعض دول الخليج العربي، ذاك الاطمئنان لشراكة مستقبلية، اقتصادية وأمنية وسياسية، مع الكيان الصهيوني، في حين أنّ على كل عربيّ أن يحصي عدد أصابع يده بعد مصافحة صهيونيّ طمّاع بثروات العرب ويخطّط للاستيلاء عليها بطرائق شتّى. ما هي ضمانة عرب الثروة في عقد مثل هذه الشراكة الخطيرة على خيراتهم وثرواتهم، ومن أين يستمدّون تلك الثقة بأنهم محميّون ومحتاطون لأخطار سيطرة وهيمنة تنتظرهم إن هم شرّعوا أبوابهم للكيان اللص، المارق والقاتل والعدوانيّ الذي لا صديق له ولا حليف إلا نفسه، ولا مصالح في الدنيا إلّا مصالحه، ويأتي ليوهم العرب بأنّه ينشد شراكة اقتصادية وتكنولوجية وإنمائية وسياسية معه، فيما لا تعدو نياته كونها نيات سطو على مقدّرات المنطقة وسرقتها والتحكّم فيها وتملّكها بالكامل في النهاية. وما انفكّ عرب الثروة يوهمون أنفسهم بأنّهم محصّنون ضدّ أخطار مماثلة! ولكن بماذا؟ هل بالقوانين الدولية التي لا تخضع الدولة المارقة و”الاستثنائية” لأيّ منها؟ هل بالنظام المالي العالميّ الذي تسيطر عليه الصهيونية العالمية أو خدّامها الغربيون في أوروبا والولايات المتحدة وحتى في روسيا والصين المتصهينتين (غزّة تشهد)؟ كيف يحمي العرب أنفسهم من الفجور الأميركيّ والإسرائيليّ الذي لا همّ له إلا سلب العرب ثرواتهم الضخمة وخيراتهم وكل ما أنجزوه في مجتمعاتهم حتى الساعة؟
إلى عرب الخليج والثروة الحقائق الآتية: التطبيع الاقتصادي والسياسيّ بين دول الخليج العربي والمدعوّة “إسرائيل” يُطرح و”يُسوّق” إبراهيمياً (يا لنفاق التسمية الدينية لإمرار الخديعة) باعتباره “فرصة” استثمارية وتنموية لـ”ازدهار” المنطقة، في حين أنّه يحمل للعرب أخطاراً استراتيجية عميقة الأثر على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي الأخطار السياسية، يُفقد التطبيع المجاني دول الخليج ورقة مهمّة كانت تستخدمها لدعم القضية الفلسطينية للتوازن مع الغرب والضغط عليه، إذا توافرت الإرادة المشتركة، ولا يجني العرب شيئاً من ضياع قضية فلسطين لو كانوا يعتقدون أنها “عبء بالناقص” فالدور آتٍ إليهم كما فلسطين. ثم يؤدّي التطبيع إلى اختلال التحالفات الإقليمية، وإلى التوتر مع قوى إقليمية مثل إيران وتركيا تعتبر الأمر تهديداً مباشراً لمصالحها. فضلاً عن خطر هيمنة “إسرائيل” على القرار الإقليمي، بحيث تغدو، بحكم علاقاتها القوية مع واشنطن وأوروبا، الوسيط الإجباري لدول الخليج في ملفات إقليمية، فتفقد هذه قرارها المستقل.
سوف يهمّش تراجع الدور العربي مع تعزيز نفوذ “إسرائيل” في الخليج الأطر العربية التقليدية مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية لحساب شبكات تعاون تقودها دولة الاحتلال
وفي الأخطار الاقتصادية، وهنا بيت القصيد، توفّر الشراكة الاقتصادية مع كيان خبيث مارق سارق عدواني له اختراق الأسواق العربية، بفعل امتلاكه التكنولوجيا المتقدّمة في الأمن السيبرانيّ والمياه والزراعة، فيؤدّي دخوله الأسواق الخليجية إلى تهميش الاقتصادات الوطنية. وبدلاً من بناء قاعدة معرفية محلية تتحوّل دول الخليج إلى مستهلك دائم للتكنولوجيا الإسرائيلية، فتقع هذه الدول تحت التبعية التكنولوجية. والأدهى أن الشراكات المزعومة سوف تدار بطريقة تخدم الاقتصاد الإسرائيلي أكثر منه الخليجي، فيتحقق للكيان الصهيوني منفذٌ مالي ضخم، بينما يبقى الخليجيون يؤدّون دور “المموّل”. ثمة طرائق متعدّدة يمكن لجهة خارجية (دولة أو شركاتها ومؤسساتها المالية) أن تكتسب عبرها سيطرة اقتصادية ومالية فعلية على ثروات الدول الخليجية، خاصة إذا توافرت عوامل ضعف سياسية ومالية وتشريعية لدى الدولة العربية، إذ تلجأ الشريكة “إسرائيل” مباشرةً أو مواربةً إلى شراء حصص استراتيجية عبر الاستحواذ والاندماج بواسطة شركات خاصة أو صناديق استثمار من الشركات النفطية الخليجية والمرافئ التشغيلية لتلك الشركات والمؤسسات الوطنية وإيراداتها. يحدُث ذلك عبر صفقات سوقية أو عبر شراء أصول في عملية خصخصة (لا يملك العرب ترف الرفض، لأنهم سيكونون واقعين تحت الهيمنة والسيطرة المباشرة والترغيب والترهيب والتهديد، وزيارات ترامب الابتزازية لملء جيوبه تشهد على ذلك). ثم هناك عقود الامتياز طويلة الأمد لشركات أجنبية سوف تتسلّل بيسر لاستغلال حقول الغاز وبناء المرافئ ومحطات الكهرباء، فلا تواجه شروط حماية كافية تمنعها من امتلاك سلطة تشغيلية للموارد الوطنية. أضف سياسة الإقراض التي تُغرق الدول المدينة، والصناديق الاستثمارية التي تشتري شركات محلية، وتعيد هيكلتها بحيث تحوّل أرباحاً للشريك الأجنبي (“إسرائيل” وشركاؤها الغربيون في هذه الحال) أو تبيع أصولاً استراتيجية في مناسباتٍ تظنّها مربحة، فلو اعتمدت دول الخليج على التقنيات الأجنبية لإدارة المياه أو تحلية مياه البحر أو أمن الطاقة أو الأمن السيبراني من دون نقل تكنولوجيا وبناء قدرات محلية، فإنّ المزوِّد “الإسرائيلي” والأجنبي يصبح لاعباً حاسماً يملك النفوذ الأكبر وقوة الضغط. امتلاك الموانئ أو إدارتها وامتلاك خطوط الأنابيب وشبكات الاتصالات ومراكز البيانات يجعل الجهة المالكة قادرة على التحكّم في تدفقات الصادرات من نفط وغاز، وفي التجارة والبيانات. إنّ شراء الأصول عبر شركات “واجهة” أو هيئات استثمارية صعبة التتبّع يعقّد القدرة المحلية على رصد السيطرة الفعلية ومنعها. ثمّة من همس في أذن الحاكم العربي المطبِّع، أو المقبل على التطبيع، بأنه في أمان من كل ما أوردناه، وأنّه محصّن وقويّ بالتشريعات والقوانين ضدّ كل ذلك، ولكن يا لوهم الهامس ويا لأوهام الحاكم. سوف تتسلّل الأفعى الصهيونية إلى الفراش الهانئ وتعضّ العنق وتبخّ سمّها في جسد الأمة.
سوف يهمّش تراجع الدور العربي مع تعزيز نفوذ “إسرائيل” في الخليج الأطر العربية التقليدية مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية لحساب شبكات تعاون تقودها دولة الاحتلال. وسوف توسّع الأخيرة، وهي خطر حقيقي، هيمنتها على موارد الطاقة للسيطرة التدريجية على قطاعي الغاز والنفط، عبر “شراكات استراتيجية” تجعل الخليج مجرّد مَصْدَر للمواد الخام. وسوف تستخدم الخليج قاعدة للتوسع نحو آسيا وأفريقيا، ما يضعف الدور الخليجي جسراً اقتصاديّاً عالميّاً.
ليس مستبعداً ألبتة أن تستغل “إسرائيل” وجودها على أرض الخليج العربي، لتعزيز صدام مباشر مع إيران فوق الأرض الخليجية، ما يعرّض المنطقة لخطر حروب بالوكالة
أضف إلى ما سبق ذكره خطر انقسام الهوية الوطنية، فالتطبيع يفكّك الإجماع الوطني حول قضايا جوهرية مثل فلسطين والعداء للكيان الصهيوني، فإن يكن الرفض الشعبي والاحتجاجات غير ظاهرة حالياً، إلا أن تراكم مفاعيل التطبيع سوف يخلق اضطرابات مستقبلية، وسوف تتآكل السيادات الوطنية لو أصبحت “إسرائيل” هذه جزءاً من البنية الأمنية الخليجية (عبر الدفاع السيبراني أو نظم المراقبة)، إذ يمسي القرار السيادي مكشوفاً ومقيّداً. كما أنّ استخدام المال الخليجي لتمويل مشاريع تخدم “إسرائيل” استراتيجياً إنّما يصبّ في الأجندة الإسرائيلية الإقليمية ومشروعها للسطو والهيمنة. هذا عدا الأخطار على الأمن الغذائي والموارد، واستخدام الثقافة لتغيير وعي الأجيال الجديدة في اتجاه قبول “إسرائيل” كأنّها أمر طبيعيّ، على حساب الذاكرة التاريخية للقضية الفلسطينية. ولا ننسى الاختراق الاستخباراتي، فالتطبيع يمنح “إسرائيل” فرصة الوصول إلى بنى تحتية حساسة في دول الخليج العربية وبخاصة في قطاعات الطاقة والاتصالات والبيانات. كما أن لدى “إسرائيل” خبرة في بناء شبكات نفوذ داخل الدول عبر الاقتصاد والشركات الأمنية، ما يهدّد سيادة القرار الوطني. وليس مستبعداً ألبتة أن تستغل “إسرائيل” وجودها على أرض الخليج العربي، لتعزيز صدام مباشر مع إيران فوق الأرض الخليجية، ما يعرّض المنطقة لخطر حروب بالوكالة.
خاطب الشاعر نزار قباني العرب بعد نكسة 1967 قائلاً: “أفيقوا… أفيقوا فقد أكل الذئب ما بينكم وأنتم نيام/ وأنتم على رفّ أحلامكم تُسقطون النجوم وتغفو الخيام”، ولا يزال نداء قباني ساري المفعول في ساعتنا الراهنة، والأرجح لأن العرب في حالة نوم أبديّ لا صحوة منها. وقد جاء في ديوان العرب: “لقد أسمعتَ لو ناديت حياً/ ولكن لا حياة لمن تنادي”. يا لبُؤس واقعنا العربي، وبِئْس المصير.