كتب ماثيو بوروز, في ناشيونال إنترست:
خليفة دونالد ترامب، أيا كان، سوف يجد صعوبة بالغة في استعادة الزعامة العالمية للولايات المتحدة في عام 2029.
لقد قاطع الرئيس دونالد ترامب الموقف الدولي التقليدي للولايات المتحدة بشكل لا رجعة فيه. لكن هل يمكن عكس هذا الموقف في المستقبل؟
في الحقيقة تشكّل هذه الخطوة تحدياً كبيراً لمكانة الولايات المتحدة، وكذلك لشراكاتها مع حلفائها الذين اعتمدوا عليها في أمنهم وازدهارهم. كان هناك رؤساء آخرون “قاموا بالتغيير”، مثل رونالد ريغان، لكن لم يشكّك أي منهم في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي عزز القوة الأمريكية ووسّع نطاقها على مدى الثمانين عاماً الماضية.
لقد بادر ترامب، في المائة يوم الأولى من ولايته الثانية، بتفكيك مؤسسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، التي كانت تقدم 40% من المساعدات الإنسانية العالمية وإغاثة الكوارث. وقد أُدمجت بقايا الوكالة في وزارة الخارجية، التي تواجه بدورها تخفيضات هائلة. وتشير مسودة مذكرة حول إعادة تنظيم وزارة الخارجية المقترحة إلى “إلغاء العمليات في أفريقيا وإغلاق المكاتب المعنية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان واللاجئين”، وستخفّض عدد الموظفين، بمن فيهم الموظفون الدبلوماسيون، بنسبة 15%. وإذا وافق الكونعرس، فسوف يتم إغلاق بعض السفارات والبعثات الأميركية في أفريقيا والعالم النامي.
والآن يتم تخفيض جميع برامج تغير المناخ والبيئة في الحكومة الأمريكية، ما يُخفّض مليارات الدولارات المخصصة لكل شيء، من مياه الشرب، والطاقة النظيفة، وأقمار الأرصاد الجوية، إلى المتنزهات الوطنية، وإدارة الطوارئ، والعدالة البيئية. ومن المقرر أن يُخفَّض تمويل التكنولوجيا الخضراء والطاقة النظيفة، الذي بدأه الرئيس السابق جو بايدن، في ميزانية ترامب المقترحة، بما في ذلك تمويل السيارات الكهربائية، الأمر الذي سيمهِّد للصين، إلى جانب الرسوم الجمركية على السيارات، الطريق للهيمنة على السوق العالمية للسيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة الشمسية.
كما سيتضرر النمو الاقتصادي الأمريكي المستقبلي، وكذلك الابتكار الذي دفعه، جراء تخفيضات ترامب في الإنفاق الفيدرالي على البحث والتطوير، وخاصة أهم مؤسسات البحث العلمي والابتكار – المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، والمؤسسة الوطنية للعلوم، والإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA). وقد فصلت هذه المؤسسات الثلاث بعض العلماء وأوقفت مشاريع بحثية يصعب استئنافها. وقد وجدت دراسة حديثة أجرتها جامعة أمريكية أن التخفيضات الكبيرة في الإنفاق على البحث العلمي قد تسبب “ضرراً اقتصادياً طويل الأمد يعادل ركوداً اقتصادياً كبيراً”، ناهيك عن القضاء على ريادة الولايات المتحدة في مجال الرعاية الصحية.
تُعدّ الجامعات مركزاً حيوياً للبحث في طيف واسع من المواضيع، من السرطان إلى اللقاحات، والعديد من الجامعات المرموقة، مثل هارفارد، تواجه احتمال فقدان التمويل الفيدرالي المخصص للبحث العلمي. أما الركيزة الوحيدة المتبقية للقوة العالمية للولايات المتحدة فهي التفوق العسكري المنقطع النظير، والذي يتم تعزيزه بشكل أكبر في مقترح ميزانية ترامب.
ولا يكتفي ترامب بإلغاء برامج محلية عديدة دعمت القيادة الدولية للولايات المتحدة. بل يبدو عازماً على التراجع عن جزء كبير من الإطار متعدد الأطراف الذي أسسه الرئيسان فرانكلين روزفلت وهاري ترومان وخلفاؤهما. فقد دمر النظام التجاري لمنظمة التجارة العالمية، وانسحب من منظمة الصحة العالمية، وخفض التمويل الإنساني والتنموي لوكالات الأمم المتحدة، مما سيُعرّض فقراء العالم للخطر.
لقد صرح الرئيس بأن دولاً أخرى، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة على وجه الخصوص، استغلت الضمانات الأمنية الأمريكية والأسواق المفتوحة. وكما صرّح وزير الخارجية ماركو روبيو: “إن النظام العالمي لما بعد الحرب ليس بالياً فحسب؛ بل أصبح الآن سلاحاً يُستخدم ضدنا”. وليس من الواضح ما هو دور حلف الناتو بعد 4 سنوات، أو ما إذا كانت الشراكة الأمريكية الروسية الجديدة ستُغيّر المشهد الاستراتيجي. وبحلول عام 2029، قد تكون أوروبا قد بدأت في بناء دفاع مستقل في أعقاب تخفيف الالتزامات الأمريكية بالدفاع عن أوروبا ضد روسيا.
تُشير اتهامات وزير الخزانة سكوت بيسنت لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لممارساتهما الإقراضية “الواعية” إلى أنه بمجرد انتهاء مراجعة المؤسسات الدولية التي تستمر 180 يوماً، قد تُقلل الولايات المتحدة التزاماتها أو حتى تنسحب من كلتا المؤسستين. وسيسبب الانسحاب من صندوق النقد الدولي أزمة كبيرة للدولار، الذي تضررت مكانته بالفعل جراء رسوم ترامب الجمركية.
وبفرض رسوم جمركية على حلفائه ودول أخرى بمستويات تُضاهي تلك التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي، أظهر ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد مهتمة بلعب دور القوة الاقتصادية المهيمنة التقليدية. ووفقاً للمؤرخ الاقتصادي تشارلز كيندلبرغر، فإن القوى الاقتصادية المهيمنة تؤدي “ثلاث وظائف أساسية؛ فهي تحافظ على سوق مفتوحة نسبياً حيث يمكن للدول المتعثرة بيع سلعها، وتقدم قروضاً طويلة الأجل للدول المتعثرة، وتعمل كبنك مركزي عالمي”.
إن ترامب يريد انتزاع تنازلات من دول أخرى بشكل أحادي، انطلاقاً من شعور مبالغ فيه بقوة السوق الأمريكية وجاذبيتها. ويحذر الاقتصاديون من أن الرسوم الجمركية ستدفع الدول إلى البحث عن أسواق أخرى لبيع سلعها، وأن الحمائية ستُضعف القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة.
وتقدر مؤسسة الضرائب غير الحزبية أن “فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% قد يُدرّ 2.2 تريليون دولار خلال فترة الميزانية الممتدة من 2025 إلى 2034″، ولكنه “سيُخفّض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4%”. ونتيجةً للردّ الانتقامي على الرسوم الجمركية، من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي أكثر إلى 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2035. وتشير دراسة حديثة أجراها معهد بيترسون إلى أن قطاعات الزراعة والتعدين والتصنيع في الولايات المتحدة قد تكون الأكثر تضرراً نظراً لاعتمادها على الطلب الخارجي على صادراتها.