الفرصة مفتوحة أمام دمشق لكن من الضروري أن تكتمل بمنح السوريين جميعاً فرصة للمشاركة في بناء الدولة
كتب رفيق خوري, في اندبندنت عربية:
وحتى الآن، فإن الرئيس أحمد الشرع الذي ساعدت الظروف الإقليمية والدولية في انتقاله من إمارة إدلب إلى حكم دمشق يعطي الأولوية للعلاقات الخارجية، وهذه من الضرورات. أما الانفتاح على الداخل فإنه بطيء جداً ومحدود جداً، وسط تحديات لا محدودة.
ليس قليلاً ولا بسيطاً ما تحتاج إليه سوريا الجديدة، لكي تتجدد بالفعل وفي العمق. من “سوريا الأسد” إلى “سوريا أولاً”، ومن إعادة ترتيب العلاقات مع الخارج إلى إعادة تنظيم العلاقات في الداخل. فالحاجة كبيرة إلى الانفتاح على العرب والغرب من دون تجاهل الشرق الذي خلت دمشق إلا منه، وكانت سوريا من أوائل البلدان العربية في التوجه شرقاً. لكن الحاجة أكبر إلى الانفتاح على التنوع السوري، بعد عقود من غربة سوريا عن نفسها، كما عن الحرية والحياة السياسية والفكرية.
وحتى الآن، فإن الرئيس أحمد الشرع الذي ساعدت الظروف الإقليمية والدولية في انتقاله من إمارة إدلب إلى حكم دمشق يعطي الأولوية للعلاقات الخارجية، وهذه من الضرورات. أما الانفتاح على الداخل فإنه بطيء جداً ومحدود جداً، وسط تحديات لا محدودة، وأوضاع مأسوية، واعتداءات على أهل الساحل الغربي والسويداء، وهذا يتقدم الضرورات بعد نصف قرن من حكم سمى نفسه “قائد الدولة والمجتمع” فأنهى الدولة ومزق النسيج الوطني في المجتمع.
ذلك أن سوريا في المرحلة الحالية هي سلطة هشة ومجتمع هش، سلطة احتاجت بالاضطرار، إلى مجلس نيابي فاختارت 6 آلاف شخص من بين 23 مليون سوري وسمتهم ناخبين، كما اختارت المرشحين للعضوية في ثلثي مقاعد المجلس وتركت للرئيس تسمية الثلث الباقي. وهذا عملياً مجلس خارج السياسة في إدارة سلطوية مركزية يمسك بها رجل واحد مع ترك حرية الكلام للناس من دون قانون الأحزاب وحرية تنظيم النقابات، قليل من القمع السياسي وكثير من القمع الاجتماعي.
والعمل خارج خطاب الشرع يجري على أيدي سلفيين “جهاديين” لا يعرفون التنوع السوري، ولا يتقبلون الأقليات، ولا يفهمون وسطية الأكثرية السنية في سوريا. ولا أحد يجهل ماضي “هيئة تحرير الشام”، ولا أحد يعرف إلى أي حد يمكن أن تتغير في الحاضر كما يوحي خطاب الشرع، وكيف تكون في المستقبل. والأسئلة حائرة حول المرحلة الانتقالية الطويلة جداً على مدى خمسة أعوام، هل هي مرحلة التحضير لنظام شمولي آخر أم للسير نحو المواطنة؟ هل هي صورة من”إدارة التوحش” على الطريق إلى “التمكين” أم من التثقيف الفكري والسياسي والاجتماعي، وصولاً إلى التغيير الديمقراطي؟ الواقع أنه ليس في خطاب الإدارة الجديدة أي ذكر لكلمة ديمقراطية.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب المعجب بالشرع يقول “امنحوا سوريا فرصة”، والفرصة مفتوحة بالفعل، لكن من الضروري أن تكتمل بمنح السوريين جميعاً فرصة للمشاركة في بناء الدولة. فالشرع عرف كيف يوسع الفرصة بالانفتاح على السعودية وقطر ومصر والإمارات وفرنسا وأميركا التي بادرت إلى الانفتاح عليه، فضلاً عن التفاوض مع إسرائيل مباشرة على المستوى الوزاري من أجل اتفاق أمني يعيد الوضع لما كان عليه في اتفاق فك الارتباط في الجولان لعام 1974.
والرحلة الأخيرة كانت إلى روسيا، وفي الأساس فإن سلاح سوريا روسي، والعقيدة الأمنية للجيش السوري هي العقيدة السوفياتية، والعلاقات السياسية والدبلوماسية بدت أوسع حتى من معاهدة التعاون الاستراتيجي بين دمشق وموسكو أيام السوفيات، وليس مشهد المسؤولين السوريين في موسكو، ولا سيما أيام الرئيس حافظ الأسد ووريثه بشار، سوى مشهد تقليدي. أما مشهد الرئيس الشرع في الكرملين مع الرئيس فلاديمير بوتين، فإنه أقرب إلى السوريالية. محادثات في الكرملين بين من حمى بشار الأسد ومن أسقطه على مقربة من وجود الأسد اللاجئ إلى موسكو لـ”أسباب إنسانية”، بحسب قول بوتين.
محادثات يطلب فيها الرئيس السوري من نظيره الروسي تسليم الأسد لمحاكمته في سوريا، مع معرفته أن الأمر غير ممكن. ومحادثات لإعادة تنظيم العلاقات والوجود العسكري الروسي في سوريا من دون توقف أمام كون بوتين هو الذي تولى طياروه قصف المعارضين السوريين، الذي أطال عمر نظام الأسد منذ عام 2015 إلى عام 2024، بعدما كان مهدداً بالسقوط “خلال أسبوعين” كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. ولا مجال بالطبع للمطالبة بمحاكمة بوتين شريك الأسد، لأن كلفة المواجهة مع دولة كبرى باهظة.
والكل في الداخل والخارج، باستثناء إيران ووكلائها، يتصرف على أساس أنه لا بديل عن الإدارة الجديدة برئاسة الشرع. وما يدور حالياً هو لعبة تنظيم النفوذ الإقليمي والدولي في سوريا الجديدة، بعد أعوام من احتكار الروس والإيرانيين للنفوذ هناك. فالتنافس الصراعي بين تركيا وإسرائيل له طابع استراتيجي وجيوسياسي، وأدوار السعودية وقطر والإمارات سياسية واقتصادية. أما لبنان والعراق فيطلبان أفضل العلاقات مع دمشق، مع حل القضايا المتراكمة من تركة آل الأسد. ومصر تبحث عما يطمئنها، بالنسبة إلى ضبط الإخوان المسلمين. وفرنسا في حاجة إلى دور في سوريا يكمل دورها في لبنان، بينما أميركا تمسك بالمفاتيح الإقليمية ومفتاح الكرد، إلى جانب حاجة الإدارة السورية إلى دورها السياسي والاقتصادي.
روسيا تعطي الأولوية للحفاظ على قاعدتها الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس، وتستعد لتسليح الجيش السوري بما لا يدعو إسرائيل إلى تدميره كما فعلت بعد سقوط النظام، بصرف النظر عن دعوات أوروبية وغير أوروبية إلى إخراج روسيا في سوريا. أما إيران، فإن الكل يجمع على إبقائها خارج أي نفوذ أو وجود في سوريا، ثم في لبنان والعراق واليمن، وسط سعيها إلى استعادة الجسر السوري الذي كانت خسارتها له ضربة قوية قطعت “الهلال الشيعي”، وهو الاسم المستعار للمشروع الإيراني.
والفارق كبير بين الحاجة إلى المساعدات والاستثمارات وبين السباق على النفوذ، ومن الصعب ضبط النفوذ الخارجي إن لم تكن الأرض الداخلية موحدة والمشاركة واسعة في الحكومة. ومن هنا تبدأ الأولويات أمام الشرع، والميزان هو ترتيب العلاقات بين لبنان وسوريا على أساس المصالح المشتركة والقوية.