كتب حسن زنيند في صحيفة DW.
اتجهت مزيد من الدول الأوروبية نحو تشديد القيود على التنقل عبر حدودها، فبعد ألمانيا، أصبحت بولندا الدولة الأوروبية الثانية عشرة التي تلجأ إلى هذا الإجراء، ما يضع أكثر من علامة استفهام بشأن مستقبل منطقة شنغن التي جعلت من حرية التنقل أحد أسس المشروع الأوروبي برمته. وباشرت بولندا اعتبارا من يوم الاثنين (السابع من يوليو/ تموز 2025) عمليات تفتيش عشوائية على المسافرين العابرين للحدود مع ألمانيا. ويذكر أن معاهدة شنغن هي اتفاقية أوروبية تهدف إلى إلغاء الضوابط الحدودية الداخلية بين الدول الأعضاء، ما يسمح بحرية التنقل للأشخاص داخل الدول الموقعة والتي تضم معظم دول التكتل القاري وبعض الدول الأخرى. وتم توقيع المعاهدة عام 1985، ودخلت حيز التنفيذ عام 1995، وأصبحت واحدة من أبرز إنجازات التكامل الأوروبي، حيث تتيح للمواطنين والزوار عبور حدود الدول الأعضاء دون الحاجة إلى تفتيش جوازات أو تأشيرات داخلية، مما يعزز التجارة والسياحة والتعاون بين الدول.
وتبرر عدة دول أوروبية تشديد إجراءات المراقبة هذه بعدة أسباب منها: تزايد المخاوف الأمنية نتيجة التهديدات الإرهابية،أزمة الهجرة غير الشرعية إضافة إلى تغير المزاج العام في أوروبا وتنامي تيار اليمين الشعبوي. وبهذا الصدد كتبت صحيفة “زودويتشه تسايتونغ” الألمانية (السابع من يوليو / تموز) معلقة “يبدو أن كلا من برلين ووارسو تنتهجان حسابات مماثلة: من يُظهر الحزم تجاه المهاجرين غير النظاميين يعزز الثقة في الدولة ويُضعف بذلك الشعبويين اليمينيين. غير أن هذه الخطوة تعتبر تجربة محفوفة بالمخاطر، إذ أنها تخلق شعورا بأن الأمن لا يتحقق إلا على حساب إغلاق الحدود. وهذا بالضبط ما سيجادل به أولئك الذين يسعون إلى تقويض إنجازات أوروبا حيثما استطاعوا. ويظهر عند الحدود الألمانية البولندية أنهم ليسوا بحاجة لتولي الحكم بأنفسهم للقضاء على الروح الأوروبية”.
أوروبا وكابوس القضاء على “روح شنغن”
يبدو أن ما يطلق عليه “روح شنغن” كواحد من أهم أسس بناء التكتل الأوروبي، يجتاز مرحلة حرجة، فلم يعد بالإمكان السفر بحرية مطلقة عبر الحدود الداخلية للقارة العجوز كما كان سابقًا دون الخوف من إيقاف العابرين من قبل شرطة الحدود. ويرى بعض المراقبين أن لهذا الإجراء طابع سياسي بالدرجة الأولى، معللين ذلك، بتراجع عدد الوافدين والمهاجرين إلى أوروبا مقارنة لما كان عليه الأمر في السنوات الماضية والذي بلغ الذروة عام 2015. حاليًا، “لا توجد أزمة هجرة، بل أزمة سياسية تؤججها التيارات الشعبوية اليمينية بإثارة مخاوف مناهضة للهجرة لتعزيز مواقعها الانتخابية”، يقول المتابعون.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “لا فانغوارديا” الإسبانية (الثامن من يوليو / تموز) معلقة “إن قرار بولندا، إلى جانب دول أوروبية أخرى بفرض عمليات تفتيش مؤقتة على الحدود يوجه ضربة قاسية أخرى لما يُعرف بمنطقة شنغن (..) التي تحتفل حاليًا بمرور أربعين عامًا على إنشائها. أزمة الهجرة والضغط من قبل اليمين المتطرف في العديد من دول الاتحاد الأوروبي تؤدي إلى قيام عدد متزايد من الدول بتشديد إجراءاتها مؤقتا على الحدود (..) فما كان من المفترض أن يكون استثناءً وأداة أخيرة، أصبح اليوم أداة عادية تستخدمها الدول بشكل منتظم، دون أن تتخذ المفوضية الأوروبية، التي يفترض أن تكون حامية معاهدة شنغن (..) موقفًا واضحًا حتى الآن (..) الخطاب الذي يربط بين الهجرة وقضايا الأمن الداخلي الذي يروج له اليمين المتشدد، يلقى صدى متزايدًا في دول الاتحاد الأوروبي (..) وقد تجد هذه الدول تشجيعًا في الرئاسة الدورية الحالية لمجلس الاتحاد الأوروبي، التي تتولاها الدنمارك خلال النصف الثاني من العام الجاري، والتي تتبنى نهجًا أكثر تشددًا بشكل واضح في قضايا الهجرة”.
تأثير الدومينو الألماني على دول الجدار
منذ تولي المستشار فريدريش ميرتس منصب المستشارية أمرت وزارة الداخلية الألمانية بتشديد الرقابة على حدود البلاد حيث أصدرت أولمر برفض استقبال طالبي اللجوء من على الحدود اعتبارا من الثامن من مايو/ أيار الماضي. وبعد شهرين من دخول هذه الإجراءات حيز التنفيذ سجلت الشرطة 7.960 حالة دخول غير مصرح بها إلى ألمانيا، وتم رفض أو ترحيل 6.193 شخصا على الفور، وشمل ذلك 285 شخصا طلبوا اللجوء. وبعدها أعلنت بولندا بدورها فرض قيود على حرية التنقل مع جارتيها في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وليتوانيا، مؤكدة أنها ضرورية للسيطرة على “الهجرة غير الشرعية”. ويذكر أن المهاجرين يعبرون دول البلطيق قادمين من بيلاروس ثم يمرون عبر بولندا إلى ألمانيا. وأثارت الإجراءات الألمانية حساسية خاصة في العلاقة مع بولندا.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “نويه تسوريخرتسايتونغ” السويسرية الناطقة بالألمانية (السابع من يوليو / تموز) معلقة: “إذا ما اتبعت دول أخرى هذا النهج وبدأت بدورها في فرض رقابة على حدودها مع ألمانيا، فإن الضغط سيزداد على جميع دول الاتحاد الأوروبي لحماية الحدود الخارجية للاتحاد بشكل فعّال: إذ لا أحد مهتم بلعبة “بينغ بونغ” كهجرة داخل أوروبا. وعندها فقط، وبعد سنوات من الحدود المفتوحة إلى حد بعيد، ستصبح حرية التنقل الكاملة داخل الاتحاد ممكنة من جديد. وقد يكون تأثير الدومينو الذي يُخشى منه بشدة، والذي قد يبدأ الآن، مفيدًا لأوروبا بأسرها. واستطردت الصحيفة موضحة “لا شك أن عمليات التفتيش الحدودية بين ألمانيا وبولندا تُلحق ضررًا مؤقتًا بالسوق الداخلية الأوروبية. غير أن الحكومة البولندية محقة في تذكير الألمان بأنها تقوم بالفعل بحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. ففي الوقت الذي يرسل فيه الزعيم البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو مهاجرين من إفريقيا والدول العربية نحو الغرب، تقوم بولندا بتأمين حدودها مع بيلاروسيا عبر منشآت حدودية معقدة وآلاف من عناصر الأمن. يمكن لعمليات التفتيش الجديدة أن تطلق عملية تقود في نهايتها إلى إعادة تنظيم ذكية وشاملة لسياسة الهجرة الأوروبية بأكملها. وهذا من شأنه أن يخفف العبء عن بولندا أيضًا”.
مراقبة الحدود تعكر صفو العلاقات الألمانية البولندية
بدأت وحدات شرطة الحدود البولندية في جميع المعابر الحدودية مع ألمانيا بمراقبة وفحص سائقي السيارات والمارة، وذلك ردًا على عمليات التفتيش على الجانب الألماني. فالمشاهد هي نفسها تتكرر في كل مكان، فرق شرطة حدود بولندية توقف المركبات القادمة من ألمانيا، وتسحب بعضاً منها لتفتيشها. بالنسبة للعابرين الذين يريدون التوجه من ألمانيا إلى بولندا، يعني فترات انتظار أطول. ورغم أنه حتى الآن حدثت ازدحامات قصيرة ومتفرقة فقط، إلا أنه يتعين الآن على المسافرين التوقف، وإظهار بطاقة الهوية أو جواز السفر، وحينها فقط يتم السماح بمواصلة السير. وفقًا لحرس الحدود البولندي، سيتم التركيز بشكل خاص على المركبات ذات النوافذ المعتمة، والحافلات، والسيارات الصغيرة، والمركبات التي تقل عددًا كبيرًا من الركاب. لا توجد حواجز أو سدود ثابتة، لكن الطرق تُضيق أو تُعلَّم قبل نقاط التفتيش لإبطاء حركة المرور.
وكان فريدريش ميرتس يرغب في تعزيز علاقات بلاده مع بولندا، إلا أن المراقبة على الحدود عكرت صفو العلاقات مع البلد الجار. وبهذا الصدد كتب موقع “شبيغل أونلاين” (الثامن من يوليو / تموز) معلقا: “في بولندا، أثارت عمليات التفتيش على الحدود مع ألمانيا استياءً كبيرًا. ويستغل “حزب القانون والعدالة” المحافظ المعارض وكذلك القوى اليمينية المتطرفة هذا الموضوع لإثارة العداء ضد المهاجرين وتأجيج المشاعر المعادية لألمانيا. وتعرض رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا دونالد توسك لضغط كبير بهذا الصدد واضطر إلى إرسال شرطة وجنود إلى الحدود. ورفضت وارسو بشكل قاطع عرض وزير الداخلية الألماني إجراء عمليات تفتيش مشتركة (..) فبدلاً من الصداقة بين الجيران، هناك الآن خلافات. وبدلاً من حدود مفتوحة هناك عزل متجدد. إن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (الألماني)، الذي يعتبر نفسه حزبًا أوروبيًا، بات الآن يهدد الوحدة الاتحاد الأوروبي”.
نقابة الشرطة الألمانية تتحدث عن “نتائج هزيلة”
بعد شهرين من بدء تشديد عمليات الرقابة على الحدود ورفض طالبي اللجوء من هناك، انتقدت نقابة الشرطة الألمانية هذه الجهود باعتبارها غير متناسبة مع نتائجها. وأقر رئيس النقابة، أندرياس روسكوبف، في تصريحات لصحيفة “أوغسبورغر ألغماينه” الألمانية (الثامن من يوليو / تموز) بانخفاض عدد طلبات اللجوء منذ أن بدأت الشرطة الاتحادية مراقبة الحدود غير أنه استطرد موضحا “لكننا نفترض في المقام الأول أنه سيجرى الالتفاف على الضوابط وأن المهربين سيستخدمون طرقا جديدة. ببساطة، لا يمكننا مراقبة كل زاوية من الحدود”. وأضاف أن “عدد حالات رفض طالبي اللجوء والحماية منخفض للغاية، رغم أن الجهد المبذول من قبل الشرطة الاتحادية هائل”. وشكا المسؤول من أن عدد حالات الرفض البالغ عددها في هذه الفترة 285 حالة يمثل فعليا 2.8 مليون ساعة عمل إضافية للشرطة الاتحادية، و”هذا يشكل عبئا هائلا على حوافز الموظفين وصحتهم”، مطالبا بتخفيف حدة الرقابة على الحدود في أسرع وقت ممكن، “وإلا ستصل الشرطة الاتحادية إلى مرحلة لا تستطيع فيها معالجة العبء من حيث عدد الموظفين”.
موقع “تاغسشاو” التابع لقناة الألمانية الأولى (السادس من يوليو/ تموز) كتب بشأن جدوى هذه الإجراءات وتساءل “إلى أي مدى يُعدّ هذا الجهد مناسبا حاليًا، ذلك أن عمليات تفتيش على نحو شبه شامل في أنحاء أوروبا، يبقى أمرًا غير محسوم في نتائجه. فإلى جانب بولندا وألمانيا، تُجري حاليًا كلّ من فرنسا، هولندا، النمسا، إيطاليا، سلوفينيا، الدنمارك، السويد، النرويج، وسلوفاكيا عمليات تفتيش على الحدود. أما بلجيكا – التي ستكون الدولة الثالثة عشرة – فتخطط للبدء بذلك في بحر الصيف الجاري (..) يعوّل كثيرون في بروكسل على انقاذ حرية التنقل في أوروبا بعد تطبيق حزمة اللجوء والهجرة بالكامل اعتبارًا من صيف عام 2026، والتي يُعوّل فيها على تحسين حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي”.