كتب عمار علي حسن في صحيفة الجزيرة.
كان من الطبيعي أن تبدي دول عربية عدة رفضها إقدام إسرائيل منفردة على الاعتراف بـ”إقليم أرض الصومال الانفصالي، الذي أعلن من طرف واحد استقلالا عن دولة الصومال عام 1991، واستغل الاضطرابات السياسية الطويلة التي أعقبت سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري، لينشئ كيانا مستقلا، أقام مؤسسات، وأعد دستورا، واستُفتي سكان الإقليم عليه عام 2001، ساعيا إلى نيل اعتراف دولي، بعد أن ورث محمية أقامتها بريطانيا في هذا المكان حتى عام 1961.
لكن الخطوة التي أقدم عليها “أرض الصومال” قوبلت برفض دولي، وفرضت عليه عزلة في ظل تشدد الدول الأفريقية والعربية في الإصرار على وحدة التراب الوطني لدولة الصومال، التي تتمتع بعضوية الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، ولا تكف عن تجديد إعلانها عن الرغبة في إعادة “إقليم أرض الصومال” الانفصالي إلى جسد الدولة الصومالية، لا سيما بعد أن استعادت عافيتها.
وانطلقت منظمة الوحدة الأفريقية في رفضها هذا من مبدأ “قدسية الحدود” الذي أقره نظامها الأساسي، حتى لا يفتح باب تفكك الدول التي استقلت عن الاستعمار الأوروبي، في ظل ميوعة الحدود التي رسمها المحتلون قبل رحيلهم، ولم تراعِ تجانس الوحدات العرقية والجغرافية والثقافية للدول، ما أدى إلى توزع قبائل وعشائر بين دول متجاورة، وفتح باب صراعات محتملة، كان لا بد من وأدها في مهدها.
أما الجامعة العربية، فلم تتوقف عن إعلان تأييدها موقف مقديشو الداعي إلى المطالبة بوحدة الدولة الصومالية، وقطع الطريق على دعاة التفكك، ليس في الصومال وحدها، إنما في الدول العربية كافة، لا سيما في وقت تتعالى فيه الأصوات المحذرة من “سايكس بيكو” جديدة، في ظل الاضطرابات السياسية التي تضرب حاليا كلا من سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان، وقبل ذلك العراق.
لم تكن خطوة الاعتراف مجرد موقف دبلوماسي، بل هي امتداد لمحاولات إسرائيلية لترسيخ وجود إستراتيجي في خليج عدن والبحر الأحمر، على حساب وحدة الدول وتماسكها
وإلى جانب هذا السبب العام لرفض العرب الخطوة الإسرائيلية، هناك أسباب تخص بعض الدول العربية، في مطلعها مصر التي تبدو الأكثر تأثرا بانتزاع “أرض الصومال” من جسد الدولة الصومالية، وتنظر بعين الريبة والقلق إلى ما أقدمت عليه تل أبيب، لعدة أسباب، هي:
1. تخشى مصر من وجود إسرائيلي في مياه خليج عدن، ما يعني الاقتراب من مضيق باب المندب، حيث السفن التي تعبره إلى قناة السويس. ولأن القناة تمثل شريانا حيويا لمصر، ليس على المستوى الاقتصادي فقط، إنما الجيوسياسي أيضا، فإن القاهرة تحرص دوما على أن يظل طريق التجارة الدولية في القناة آمنا ومستمرا، بل تطمح إلى زيادته، ومن ثم أقدمت على توسيع القناة قبل سبع سنوات.
فإقليم “أرض الصومال” يمتلك ساحلا بطول 740 كيلومترا على خليج عدن، ما يجعله يحتل موقعا مميزا عند نقطة التقاء المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة القرن الأفريقي، كما يمتلك ميناء تاريخيا مهما هو بربرة، كان على مدار سنوات محور صراع أطراف إقليمية ودولية على منطقة القرن الأفريقي.
2. تتحسب مصر، ومعها دول عربية عدة، لتنفيذ المخطط الإسرائيلي الذي يرمي إلى نقل جزء من سكان قطاع غزة أو جميعهم إلى “أرض الصومال”، ما يتناقض مع ما تعلنه القاهرة دوما من أنها حريصة على تثبيت أهل غزة في أرضهم، وتعتبر وجودهم جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.
فيما توجد في مصر جهات ومؤسسات وقطاعات عريضة من الشعب تنظر إلى المقاومة الفلسطينية في القطاع على أنها مفرزة أمامية في مواجهة الجيش الإسرائيلي، الذي لم يظهر ما ينهي أطماعه في سيناء.
وما يتردد هنا ليس مجرد تكهنات أو توقعات، فها هي القناة 12 العبرية تؤكد أن التواصل الأول بين إسرائيل وإقليم أرض الصومال الانفصالي بدأ خلال بحث إسرائيل عن دولة تستقبل سكانا من غزة العام الماضي بعد تهجيرهم قسرا إليه، موضحة أن رئيس أرض الصومال عبدالرحمن محمد عبدالله زار في وقت سابق إسرائيل سرا، والتقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزيري الدفاع والخارجية الإسرائيليين.
3. في ظل النزاع المصري ـ الإثيوبي على مياه النيل، والذي يظل مفتوحا على احتمالات عدة، لا تريد القاهرة أن تجد أديس أبابا، وهي دولة حبيسة، منفذا على خليج عدن، ما يؤثر سلبا على مستقبل أمن البحر الأحمر، وهو موقف تشاطرها فيه كل من المملكة العربية السعودية واليمن.
4. تخشى القاهرة من أن تقدم إسرائيل مستقبلا على خطوة مماثلة حال تمكن مليشيا الدعم السريع في السودان من إتمام السيطرة على إقليم دارفور وما حوله، وإعلانه دولة منفصلة عن جسد السودان، وهذا يعني وجود كيان سياسي وعسكري على حدود مصر الجنوبية، تنظر إليه القاهرة على أنه يشكل مصدر تهديد مستقبلي لها. وينطبق الأمر نفسه على حدود مصر الغربية، حيث الدولة الليبية التي لم تجمع أشتاتها بعد.
لهذا كان من الطبيعي أن ترفض القاهرة الخطوة الإسرائيلية، وتدينها بأشد العبارات، حسب بيان الخارجية المصرية، وتراها “إجراءات أحادية تمس سيادة الدول ووحدة وسلامة أراضيها، وتتعارض مع الأسس الراسخة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتقوض أسس السلم والأمن الدوليين، وتسهم في زعزعة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي”.
في كل الأحوال، فإن الخطوة الإسرائيلية تشكل تهديدا للأمن القومي العربي مستقبلا، خاصة إن أقدمت دول أخرى على الاعتراف بـ”أرض الصومال”. فرغم أن التأثير الدولي لإسرائيل قد تراجع إثر غضب دولي واسع من “الإبادة” الجماعية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة، فإن نتنياهو لا يعنيه سوى إقامة علاقة مباشرة مع “أرض الصومال”، تحقق لإسرائيل رغبتها المزمنة في امتلاك نفوذ قوي في خليج عدن والبحر الأحمر، بما قد ييسر لها، عما قريب، ضرب الحوثيين في اليمن الذين وجهوا ضربات صاروخية مؤثرة لإسرائيل أثناء عدوانها على غزة، وتوفر لها أرضا لترحيل سكان القطاع قسرا، بعد أن أخفقت، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، في الضغط على دول عربية لقبولهم على أرضها، وتتيح لها في الوقت نفسه الاستفادة من الاحتياطات النفطية في أرض الصومال.
وتراهن تل أبيب على إقناع واشنطن بما أقدمت عليه، وهو احتمال قائم بشدة. فرغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد قال إنه “لن يحذو حذو نتنياهو في الاعتراف باستقلال أرض الصومال”، فإنه ترك الباب مفتوحا أمام القبول مستقبلا، حين قال: “يجب دراسة عرض حليفي في الشرق الأوسط”، قاصدا نتنياهو، ثم قال: “ليس في هذا الوقت”، ما يعني إمكانية تأييد الخطوة الإسرائيلية مستقبلا.
لهذا، بات من الضروري أن تسعى الدبلوماسية العربية في قابل الأيام إلى ترتيب رفض جماعي لما أقدمت عليه إسرائيل، وحشد الدول الأفريقية أيضا خلف موقف مقديشو، التي اعتبرت ما فعلته إسرائيل “عدوانا لن يتم التسامح معه أبدا”، معلنة أنها ستسلك جميع السبل الدبلوماسية المتاحة للتصدي لهذا، وتحشد الشعب الصومالي في الدفاع عن وحدة أراضيه.

