يروي النائب والوزير اللبناني الأسبق في كتابه «مذكراتي» الصادر بثلاثة أجزاء، تاريخ لبنان الحديث، والتقاطعات السياسية في الانتخابات الرئاسية، وقد خُصّص الجزء الأول منه لتاريخ لبنان وجبل عامل بين عامي 1900 و1958.
في المذكرات التي ينشرها ورثته بعد 35 عاماً على رحيله، يسرد الخليل تفاصيل عن علاقته برئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون، وتاريخ لبنان من خلال هذه العلاقة القريبة، بما شاب هذا التاريخ من صراعات ارتداداً لأزمات المنطقة وانقساماتها، وليس أقلها الانقسام بين «حلف بغداد» وتمدد نفوذ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ثم النفوذ السوري في لبنان.
تنشر «الشرق الأوسط» اليوم حلقة ثانية من المذكرات. فيها يتحدث الخليل، المقرب من كميل شمعون، عن تأييد رئيس الجمهورية السابق ترشيح قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية، في انتخابات عام 1958. يسرد الخليل دوافع شمعون لذلك، رغم الاختلاف بالسياسة بين الطرفين. كما يتحدث الخليل عن مسارات ومفاوضات أدت إلى انتخاب الرئيس سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في عام 1970 بفارق صوت واحد عن إلياس سركيس، في واحدة من أكثر الانتخابات حديّة بتاريخ لبنان الحديث. وصل فرنجية إلى الرئاسة مدعوماً من حلف ثلاثي تشكل سنة 1968 بين الأحزاب المسيحية الثلاثة الكبرى، وهي حزب «الكتائب» بقيادة الشيخ بيار الجميل، وحزب «الوطنيين الأحرار» بقيادة الرئيس كميل شمعون، و«الكتلة الوطنية» بقيادة العميد ريمون إده. وهذا السرد مأخوذ من الجزء الثاني من «مذكراتي»، وهي مذكرات طال انتظارها، كما قال ناشروها في مقدمة الكتاب.
يمهّد الخليل، في هذا الجزء من المذكرات، للعلاقة مع شمعون خلال ولايته الرئاسية. يقول: «عندما انتُخب الرئيس شمعون رئيساً للجمهورية لم أكن نائباً ولم تكن صلتي به قائمة، بل كان بيني وبينه جفاء عارض وانقطاع رغم صداقتنا البعيدة العهد. وعندما زرته مهنّئاً في بيت الدين على رأس وفد من أفراد عائلتي فقط (…) وأثناء الأحاديث التي تطرّقنا إليها، شنّ الرئيس حملة شعواء على الرؤساء الذين انصرفوا طوال مدّة ولايتهم من أجل بقائهم في الحكم وتمديد ولايتهم، وفي مقدّمتهم الرئيس بشارة الخوري».

يقول: «لا شك في أن الرئيس شمعون صرف جهداً في الانتخابات النيابية لإقصاء أخصامه ومناوئيه، ولم يتورّع عن ممارسة نفوذه الشخصي لأقصى حدوده من أجل الإتيان بأصدقائه ومؤيّديه وتأمين أكثرية موالية له، ولكن كما تأكّد لي، فإنه، في الوقت نفسه، لم يقدِم على استعمال أساليب التلاعب والتزوير في صناديق الاقتراع ومحاضره، ولم يسخّر آلة الحكم لارتكاب المخالفات. أما فكرة تجديد ولايته، فلم تستقر في نفسه، رغم أن نتائج الانتخابات أعطته أكثرية مطلقة بين النواب كافية لتعديل الدستور وتجديد الولاية، بل إنها تبخّرت من نفسه عندما تبيّن له أن هذه الأكثرية ليست سليمة كلّ السلامة، ولا يؤتمن إليها لتبقى ولتستمر حتى موعد الاقتراع».
ويتابع: «لذا؛ فإنه منذ صدور نتائج الانتخابات النيابية سنة 1957، أخذ يفكّر في عزوفه عن العمل على تجديد ولايته، وبضرورة ترشيح سواه للانتخابات الرئاسية المرتقبة صيف 1958، ووقع اختياره (على) الجنرال شهاب وتبنّى ترشيحه ليكون خليفة له».
الانتخابات الرئاسية في 1958
يقول الخليل في الكتاب:
في أوائل سنة 1958 دُعيت مع الرئيس (كميل شمعون) إلى حضور حفلة افتتاح مصنع سلعاتا للسماد الكيماوي الذي أنشئ حديثاً، وهو الوحيد من نوعه في لبنان، وطلب مني أن أرافقه بسيارته ففعلت. ونحن في الطريق بادرني بسؤال:
** ما رأيك، من نرشّح لرئاسة الجمهورية وقد اقترب موعد نهاية مدّتها؟
أجاب الخليل:
– ألسنا متفقين على تجديد الولاية؟ ولِمَ تسألني عمّن نرشّح؟
** كلّا، لم تعد فكرة التجديد واردة عندي.
– إنك تفاجئني برأيك هذا، أنا من دعاة التجديد.
** لا تصرّ على التجديد؛ لأني لم أعد أفكّر به، ولا مجال الآن لأشرح لك الأسباب. قلْ لي من سنرشّح؟
– طالما أنك أقلعت عن فكرة التجديد، فلا شك في أنك فكرت بمرشّحٍ تؤيده. فهل لي بمعرفته؟
** نعم، هذا صحيح، لقد فكّرت كثيراً، فلم أجد مرشّحاً أفضل من الجنرال فؤاء شهاب، الذي كان قائداً للجيش في ذلك الوقت.
– يضيف: اِستغربت هذا الانتقاء واستنكرته، وقلت له: «إنك على خطأ باختيارك الجنرال شهاب. فهذا الرجل كاره لنا ويتعاون مع أخصامنا، وأنا أعتقد أن له علاقات وثيقة بالمعارضين». فأجابني: «دعنا نرجئ البحث في هذا الموضوع لوقتٍ آخر»، وغيَّر الحديث.
يكتب الخليل في مذكراته: لقد لاحظت أنه تعمّد إثارة هذا الموضوع ليعلمني فقط بأنه أقلع عن فكرة التجديد، وأنه يفكّر بترشيح شهاب ليحضّرني لقبول الفكرة؛ لأنه يعرف أنني لا أؤيّده، كما فتح الموضوع مرة أخرى خلال عشاء في فندق البريستول وكان حينها وزيراً للاقتصاد.
معارضة الخليل لترشيح شهاب
يسرد الخليل وقائع المحادثات، موضحاً أنه في تلك الليلة توجه إلى شمعون بالقول:
– ربما تكون على صواب بما ذكرته، لكن انتقاءك للجنرال شهاب غير مفهوم، فهو لا يأتلف معنا، بل بعيد عنّا، وربما يكرهنا، كما تبيّن لي في مناسبات عدة، وقف فيها منا موقفاً عدائياً، ومنها الانتخابات النيابية الأخيرة واتّصالاته المستترة مع المعارضين والتي ما زلت أنت غير مؤمن بها. وقد ذكرتُ لك من قبل أن لديّ معلومات من مصادر أثق بها أنه متّفق مع السوريين على التعاون مع المعارضين وتأييدهم ضدنا. إن كلّ هذا يحملني على الاعتقاد بأنه سوف لا يتعاون معنا، بل سيكون خصماً لنا.
** وما هي هذه المصادر الخاصة التي أمّنت لك هذه المعلومات؟ وظهر من لهجته أنه غير مؤمن أن لدي مصادر خاصة تؤمّن لي مثل هذه المعلومات.

رد الخليل على شمعون قائلاً:
«ليس بيني وبين الرجل عداوة شخصية ولا أكرهه لشخصه، بل هو يبدو لطيفاً معي ومتواضعاً. أما المصادر الخاصة التي تزوّدني بالمعلومات فتأتيني من شخص من أبناء الجنوب، ومن قرية قريبة من الحدود الفلسطينية، يستعمله السوريون لتزويدهم بالمعلومات عن تحرّكات الإسرائيليين على الحدود. وقد أوفدوه إليّ يطلبون مني أن أتخلّى عن التعاون معك وأتعاون مع السوريين والناصريين؛ إذ إن رئيس الوزراء وقائد الجيش وغيرهما متفقون معهم، وإنه لا يليق بي أن أبقى خارج الإجماع الاسمي وهم يضمنون لي كلّ تأييد إذا استجبت لنصائحهم. وأنا واثق من صحّة ما نُقل إليّ ومن صدق الرجل وإخلاصه لي».
** رد شمعون: أنا لا أزال مؤمناً بالجنرال (شهاب) وبتصرّفاته معي، وأعتقد أن معلومات من ذكرتهم هي من مصادر غير مسؤولة ولا موثوقة. ومع ذلك دعنا نبحث عن مرشّحٍ آخر. أنؤيّد بشارة الخوري أم ريمون إدّه؟
– ولمَ لا؟».
دوافع ترشيح شهاب
ينقل الخليل عن شمعون دوافع ترشيحه لشهاب بالقول: «دعني أضعك بجو الجنرال شهاب وفكرتي عنه. إن هذا الرجل لا أطماع له أكثر من أن يصل إلى رئاسة الجمهورية ويحمل لقبها. وهو لن يجعل منها مزرعة له ولأفراد عائلته وأتباعه ومؤيّديه وأعضاء حزبه، كما كانت الحال مع بشارة الخوري وأولاده وأخيه الشيخ سليم. والجنرال شهاب نظيف الكف، وإذا ما وصل إلى ما يهدف إليه عن يدنا وبتأييدنا، فإنه سيقدّر موقفنا معه ويحفظ لنا جميلنا عليه ويبادلنا معروفنا بمعروفٍ ويتعاون معنا طيلة مدّة رئاسته، وبالمقابل يؤيّدنا في المستقبل للرئاسة، سيّما وأنه مطلع على أوضاع البلاد وعالم بحالها وما تحتاج إليه. وربما ينصرف إلى إتمام ما لم يتمّ من المشاريع التي بدأتها. هذا رأيي بالجنرال شهاب. ولهذه الأسباب أجده أفضل شخص أرشّحه وأؤيّده».
رد الخليل: «إن وجهة نظرك سليمة إذا كانت أطماع الجنرال شهاب تقف عند الحدود التي ذكرتَها ولا يطمع لأكثر من ذلك، ولكن من يضمن لنا حدود أطماعه وبأنه سيبادلنا جميلنا وتأييدنا؟ مع العلم بأنه رجل عسكري وقائد للجيش، وأنا أعارض مبدأ الإتيان برجل عسكري إلى رئاسة الجمهورية؛ كي لا تصبح سابقة في لبنان يطمع بها كلّ العسكريين».
انتخابات 1970
ينتقل الخليل في مذكراته إلى انتخابات عام 1970 التي أوصلت سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية بفارق صوت واحد، وخسر فيها مرشح «الشهابية» إلياس سركيس. يسرد وقائع ما يسميها «لعبة الشهابيين» قبل ثمانٍ وأربعين ساعة من موعد الانتخاب، وبينما كان نواب الحزب (حزب الوطنيين الأحرار) مجتمعين برئاسة الرئيس شمعون في منزله في عاليه، حين تلقى اتصالاً هاتفياً من رئيس الحكومة الراحل صائب سلام وقال إن نواباً شهابيين أعلنوا أنهم يؤيّدون ترشيح النائب سليمان فرنجيّة إذا أيّده نواب الحلف، وأنه بهذه الحالة يصبح نجاحه بالرئاسة مضموناً.

يضيف: ونحن نتناقش بالموضوع، دخل علينا سليمان فرنجيّة، وقال بعد مغادرة الحاضرين: «إن عدداً من النواب الشهابيين أتوا يعرضون عليّ تأييدهم إذا أنتم أيّدتموني. وقد أصبح عدد مؤيديّ المجتمعين في بيت صائب سلام سبعة عشرة نائباً، فإذا أنتم أيّدتموني يصبح نجاحي مضموناً. ولا أخفي عليكم أن بعض من تعتقدون أنهم معكم من النواب، كاذبون يعدونكم ويعدون الآخرين في وقتٍ واحد. وأنا أعرف بعضهم».
خشيت أن يجيبه الرئيس شمعون بالرفض، ويصعب عليّ فيما بعد إقناعه ويتركنا فرنجيّة حاقداً فينضمّ إلى صفوف الشهابيين أو يعتصم في منزله. لذا بادرتُه بالجواب، وقلت: «إذا كان النواب الذين ذكرتَهم صادقين بوعدهم لك، فمرحباً بك، ونحن من أول المؤيّدين لك».
ثم أخذ الحديث الرئيس شمعون وقال له: «إن أخاك حميد تنازل لي عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية سنة 1952، وأنا أبادلك التنازل بمثله، فأهلاً ومرحباً بك».
تراجع شمعون عن تنازله لفرنجيّة
يقول خليل: بوصولي إلى مدخل منزل سليمان العلي، بادرني الموجودون أمام المدخل بأن الرئيس شمعون عدل عن تنازله لسليمان فرنجيّة، وأنه سيستمرّ بترشيحه، وأن جميع نواب الحزب ومؤيّديه اختلوا به وثاروا ضد انسحابه، وأقنعوه بعدم الانسحاب، فاستجاب لهم. دخلت إلى المنزل فوجدت الرئيس شمعون جالساً على شرفةٍ وحده والنواب واقفون بعيداً عنه وبادٍ عليه معالم الاضطراب والانفعال. تقدّمتُ منه وأبلغته موقف عادل عسيران، وأن وفداً من «الكتائب» أتى منزلي، وطلبت من الرئيس شمعون أن ننتقل إلى هناك. قال وبشيءٍ من الانفعال: «أنا ذاهبٌ إلى السعديات (قصر شمعون على الساحل جنوب بيروت)، ولن أعود، وسأطلّق السياسة نهائياً وأتركها لك وحدك». وقام وقمت ومشينا سوية وسألته:
– وما حملك على تغيير موقفك وما وعدتَ به؟
** لا أريد أن أتعاطى السياسة بعد اليوم».

يواصل الخليل سرده قائلاً: «وصلنا إلى سيّارته، ودّللت له أن لا أكثرية معنا، وأن عادل عسيران الذي كان في رأس من يحسبهم مؤيّدين له، يعمل ضده بصورةٍ علنية وينصحه بعدم الاستمرار بترشيحه. وقد ذكر لي أسماء عدّة من النوّاب أكّدوا للرئيس شهاب بأنهم يؤيّدون مرشّحه. وتمكّنت، بعد جهدٍ ونقاش، من إقناعه بوجهة نظري. وكان وفد (الكتائب) برئاسة جوزيف شادر حاضراً، فاستدعيناه وشرحنا له ما جرى وما اتّفقنا عليه مع فرنجيّة. أيّد الوفد موقفنا وما اتّخذناه من خطوات، وأكّد أن الشيخ بيار الجميل لا يزال مستمرّاً بترشيحه كمرشّح تسوية. فأكّدت لهم موافقتنا على ذلك».
ساعات حرجة قبل انتخاب فرنجية
صباح يوم الانتخاب، حضر باكراً الرئيس شمعون. وتجمّع فريقٌ من النواب مع نواب الحزب ولفيف من المؤيّدين في منزلي حتى الساعة الرابعة من بعد الظهر موعد جلسة الانتخاب. فذهبوا جميعهم إلى المجلس، وفي مقدّمتهم الرئيس شمعون. وبقيتُ في المنزل برفقة بعض أبناء منطقتي. جلست أترقّب أخبار الجلسة من النواب الذين طلبتُ إليهم الاتّصال بي من حينٍ لآخر وإطلاعي على التطورات، متخوّفاً منها لأسبابٍ عدّة، أهمها:
– لو صدق جميع نوابنا، ومن أسرّوا بوعدهم إلينا، فالأكثرية التي يمكن أن ننالها لا تتجاوز 51 و52 صوتاً. ولكن هل سيصدقون؟
** إن الأخبار التي وصلتني عن ثلاثةٍ من نوابنا لا تزال تتفاعل في نفسي وأخشى أن تكون صحيحة.
– لست متأكّداً ممن وعدونا من النواب الشهابيين ولا مطمئناً لإخلاصهم.
كنت أخشى أن يتأثّر أحد نواب «الكتائب» من علاقاته مع المكتب الثاني ويقترع معهم سرّاً. رغم أن حزب «الكتائب» لا يتسامح بمثل هذا ونوابه يتقيّدون بعناد بقرارات حزبهم.
الحقيقة أنه لم يمرّ على لبنان في كلّ حياته السياسية أن اهتمّ الرأي العام بانتخابات رئاسة الجمهورية مثلما اهتمّ لها في تلك الدورة (1970).
يتابع الخليل: «طيلة فترة الجلسة كان بعض نوابنا يتّصلون بي، من حينٍ لآخر، ويطلعوني على مجريات الجلسة، وما يدور في الكواليس. ثم أبلغت أن الاقتراع قد ابتدأ، وأن صندوق الاقتراع يتنقّل بين النواب. ولم يمرّ بضع دقائق حتى اتّصل بي أحد موظّفي المجلس يقول إن عراكاً يكاد يدور في داخل القاعة بين النواب، وإن رئيس المجلس يرفض إعلان النتيجة التي هي 50 صوتاً لمرشّح الحلف. وأقفل الهاتف. ثم اتّصل بي أحد النواب، وأبلغني أنه كادت أن تقع معركة مسلّحة بين النواب، وأنهم بالنتيجة أجبروا رئيس المجلس صبري حماده أن يعلن فوز مرشّح الحلف سليمان فرنجيّة. وكانت لحظة سرور في نفسي لم أمرّ بمثلها طيلة حياتي».

