خطة سرية للسلام وتصدع في كييف تحت القصف الروسي والفساد
في لحظة تبدو فيها الحرب الأوكرانية عند منعطف جديد، تتقاطع ثلاث جبهات حساسة: تحرك أميركي لإحياء مسار تفاوضي سرّي لصوغ خطة سلام، ضغوط روسية عسكرية متصاعدة، واهتزاز داخلي غير مسبوق يضرب قيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي تحت وطأة أكبر فضيحة فساد تشهدها البلاد منذ بدء الغزو. هذه التطورات تعيد تشكيل المشهد، وتطرح أسئلة عميقة حول قدرة الأطراف على دخول مرحلة جديدة من الحرب أو التفاوض، وحول شكل النفوذ الأميركي في عهد الرئيس دونالد ترمب.

خطة سلام أميركية جديدة!
كشف تقرير في موقع «أكسيوس» عن أن إدارة الرئيس ترمب تعمل منذ أسابيع على إعداد خطة سلام من 28 بنداً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، في مسار يجري «سراً» وبالتنسيق المباشر مع موسكو. ويقود الجهود المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، الذي أمضى ثلاثة أيام من الاجتماعات المكثفة مع المبعوث الروسي كيريل ديميترييف في ميامي أواخر أكتوبر (تشرين الأول). المفارقة أن هذه اللقاءات تأتي في وقت لا تزال فيه كييف وبروكسل خارج دائرة المداولات التفصيلية، بانتظار ما ستطرحه واشنطن رسمياً.
الخطة، حسب التسريبات، تستند إلى أربعة محاور: إحلال السلام في أوكرانيا، الضمانات الأمنية، شكل الأمن الأوروبي المستقبلي، وإعادة بناء العلاقات الأميركية مع روسيا وكييف.

ورغم أن بنودها لم تُكشف بعد، فإن مصادر أميركية وروسية تؤكد أنها تتجاوز وقف النار إلى صياغة إطار أوسع يعيد تعريف الهيكل الأمني الأوروبي بأكمله.
بينما قالت السفارة الأميركية في كييف، الأربعاء، إن وفداً أميركياً برئاسة وزير الجيش دان دريسكول وصل إلى كييف في «مهمة لتقصي الحقائق» ومناقشة إنهاء الحرب الأوكرانية مع روسيا. وقالت في بيان نقلاً عن رئيس الشؤون العامة في الجيش الأميركي الكولونيل ديف بتلر: «وصل الوزير دريسكول وفريقه هذا الصباح إلى كييف نيابة عن إدارة ترمب في مهمة لتقصي الحقائق ولقاء المسؤولين الأوكرانيين ومناقشة إنهاء الحرب».

ورفض الكرملين، الأربعاء، التعليق على تقارير موقع «أكسيوس».
لكن أبدت موسكو تفاؤلاً غير معتاد، حيث قال ديميتريف بوضوح خلال هذه الجولات من النقاش إنها «المرة الأولى التي نشعر فيها بأن الموقف الروسي يُسمع فعلاً». بالنسبة للكرملين، قد يشكل هذا تحولاً مقارنة بالمقاربات الغربية السابقة التي كانت تستبعد أي تعاط مباشر مع هواجس روسيا الأمنية.
في المقابل، الموقف الأوكراني لا يزال حذراً. وفي حين كان من المفترض أن يلتقي ويتكوف بالرئيس زيلينسكي في تركيا، لكن اللقاء أُجّل، واكتفت كييف بالإقرار بأن «الأميركيين يعملون على شيء ما». البيت الأبيض من جانبه يقول إن «الوقت مناسب» لطرح خطة واقعية طالما أبدى الطرفان مرونة، مشيراً إلى أن الأوروبيين بدأوا يحصلون على إحاطات حولها. هذه الدينامية تشير إلى أن واشنطن تستعد لوضع إطار تفاوضي جديد، ربما يطرح على طاولة لقاء مرتقب بين ترمب وبوتين، وإن كان موعده غير مؤكد بعد تجميد فكرة قمة بودابست.
وتطالب روسيا التي باتت تحتل نحو 20 في المائة من الأراضي الأوكرانية، بتنازل كييف عن أربع مناطق في جنوب البلاد وشرقها، وأن تنسحب من عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو). ترفض أوكرانيا هذه الشروط، وتطالب بانسحاب القوات الروسية، وبضمانات أمنية غربية، وهو ما تعدّه موسكو غير مقبول.

قصف عنيف وكييف تبحث عن مخرج سياسي
بينما تدور المفاوضات خلف الكواليس، تمضي روسيا في تكثيف الضغط العسكري. في اليوم نفسه الذي وصل فيه زيلينسكي إلى تركيا لإحياء المسار التفاوضي، شنت موسكو واحداً من أعنف الهجمات منذ أشهر: 470 طائرة مسيّرة هجومية و48 صاروخاً، استهدفت البنية التحتية الأوكرانية من الطاقة إلى النقل، وصولاً إلى مبانٍ سكنية.
في تيرنوبل غرب البلاد، قُتل 20 شخصاً وأصيب العشرات، وهو تطور مقلق في منطقة كانت بمنأى نسبياً عن الهجمات الواسعة. ميدانياً، تقترب روسيا من السيطرة على مدينة باكروفسك الاستراتيجية في دونيتسك، وتحقق تقدماً متسارعاً في جنوب شرقي زابوريجيا.

زيارة زيلينسكي إلى تركيا جاءت في سياق بحث عن مخرج سياسي، في وقت تؤكد أنقرة رغبتها في إعادة إطلاق دور الوساطة الذي لعبته في السنوات الماضية. ومع ذلك، أعلن الكرملين أنه لن يشارك في هذه الجولة من المحادثات، رغم تأكيده الانفتاح على التفاوض في العموم. بالنسبة لموسكو، التقدم العسكري على الأرض يمنحها ورقة ضغط إضافية، وهي تفضّل، على ما يبدو، انتظار شكل الخطة الأميركية قبل الدخول في مسار قد يقيّد شروطها.
هذه التطورات تزيد شعور كييف بالضغط، وتمنح موسكو هامشاً تفاوضياً أوسع إذا ما بدأت مفاوضات جدية. لذلك؛ لم يتردد زيلينسكي في تجديد مطالبه للغرب: المزيد من صواريخ الدفاع الجوي، مقاتلات مزودة بقدرات موسعة، وزيادة إنتاج المسيّرات الدفاعية.
وتزامناً مع الجهود الدبلوماسية، وافقت واشنطن على صفقة بقيمة 105 ملايين دولار لتحديث منظومة «باتريوت» الأوكرانية. الصفقة تشمل تطوير القاذفات إلى نسخة قادرة على إطلاق عدد أكبر من الصواريخ، بالإضافة إلى قطع غيار وتدريب.

الصفقة ليست مجرد دعم عسكري تقني؛ بل تعكس تحولاً في السياسة الأميركية. فالرئيس ترمب كان قد انتقد المساعدات العسكرية لكييف التي بلغت 67 مليار دولار منذ الغزو الروسي، مؤكداً أنه لا يريد «شيكات مفتوحة». لذلك؛ ستدفع أوكرانيا التكلفة بنفسها، في مؤشر إلى أن الدعم سيستمر، لكن ضمن شروط جديدة.
بالنسبة لواشنطن، تحديث «باتريوت» خطوة ضرورية لحماية الأجواء الأوكرانية في ظل التصعيد الروسي، ولتعزيز موقف كييف في أي مفاوضات محتملة. أما بالنسبة لزيلينسكي، فهو يدرك أن الحفاظ على الغطاء الأميركي، حتى بشروط أكثر صرامة، يبقى مسألة وجودية.

أكدت وزارة الدفاع الروسية، الأربعاء، أن أوكرانيا تستخدم صواريخ «أتاكمز» أميركية الصنع مجددا لضرب أهداف في المناطق النائية بروسيا، وهذه المرة في منطقة فورونيج. وكانت هيئة الأركان العامة الأوكرانية قد أعلنت سابقا استخدام صواريخ «أتاكمز» طويلة المدى. وقالت وزارة الدفاع الروسية إنه تم تدمير أربعة صواريخ «أتاكمز»، وسقط حطام الصواريخ على سقف مركز لرعاية كبار السن ودار أيتام وأحد الممتلكات الخاصة.
وكانت كييف قد أعلنت، الثلاثاء، أنها استهدفت منشآت عسكرية في الأراضي النائية الروسية، من دون تقديم تفاصيل. ووفقاً لتقارير إعلامية، توجد قاعدة جوية عسكرية في فورونيج، تنطلق منها مقاتلات روسية من طراز «سو – 34» لشن هجمات على أوكرانيا. مع ذلك، قالت وزارة الدفاع الروسية إن كييف استخدمت الصواريخ الأميركية للهجوم على أهداف مدنية.
زلزال سياسي في كييف
لكن في الوقت الأكثر حساسية بالنسبة لزيلينسكي، انفجرت فضيحة فساد ضخمة داخل قطاع الطاقة النووية، تورط فيها مقربون من الرئيس، بينهم شريك سابق له في الأعمال. التحقيقات التي تقودها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كشفت عن شبكة اختلست أكثر من 100 مليون دولار عبر عقود مريبة. تسجيلات صوتية وتفاصيل حول تحويل الأموال إلى الخارج تُنشر يومياً؛ ما يفاقم غضب الشارع.
الفضيحة أعادت الحياة إلى المعارضة السياسية، التي كانت خامدة منذ بداية الغزو. حزب الرئيس السابق بيترو بوروشينكو تحدث عن «مال دم»، واتهم حكومة زيلينسكي بأنها «غير كفؤة وفاسدة». نواب من الحزب نفسه بدأوا بحث توقيع لعقد جلسة حجب ثقة عن الحكومة، بينما يطالب بعضهم باستقالة مدير مكتب الرئيس أندري يرماك، الرجل الأقوى في الدائرة الضيقة حول زيلينسكي.

البرلمان الأوكراني، الذي كان يعمل بنوع من الإجماع الوطني منذ سنوات، بات الآن مهدداً بانشقاقات قد تفقد زيلينسكي الغالبية، وتعرقل تمرير قوانين عاجلة مرتبطة بالجهد الحربي. وقد تأجل بالفعل التصويت على الموازنة الجديدة وسط صراع سياسي متصاعد.
وبانخفاض شعبيته من 90 في المائة بعد بداية الغزو إلى نحو 50 في المائة اليوم، يدخل زيلينسكي مرحلة من الاهتزاز الداخلي قد تكون الأخطر منذ وصوله إلى السلطة. وفي ظل استمرار حالة الحرب وتعليق الانتخابات، لا يمكن للمعارضة الإطاحة به ديمقراطياً، لكنها تستطيع إضعافه بشدة داخل مؤسسات الدولة؛ ما قد ينعكس على وحدة الجبهة الداخلية والموقف التفاوضي مع روسيا.
في المحصلة، تبدو الساحة الأوكرانية على أبواب مرحلة مختلفة. خطة ترمب ليست مجرد مبادرة سلام، بل محاولة لإعادة صياغة التوازنات في أوروبا والعلاقة مع روسيا. وبينما يرتفع الدخان في سماء تيرنوبل وتتسارع التحقيقات في كييف، تبدو الحرب أقرب من أي وقت مضى إلى تحول كبير، لكنه لا يزال غامض الملامح.

