رحلة عبر مئات السنين، تتيحها أجنحة معرض «روايات مسكوكة» لاستكشاف إرث السعودية والمنطقة من خلال العملات، ودورها كنوافذ على الماضي؛ إذ تحتفظ كل قطعة منها بحكاية فريدة، ودلالة عريقة، ولمحة على التاريخ.
المعرض الذي تنظمه هيئة المتاحف السعودية، في المتحف الوطني بالرياض، يأخذ الزوار في رحلة تمتد لأكثر من 13 قرناً، تستعرض تطوّر العملات منذ ما قبل الإسلام، وصولاً إلى «الريال السعودي» الحديث، عبر مقتنيات نادرة وأعمال فنية معاصرة تجسّد رمزية النقود وهويتها الثقافية.
ويروي المعرض الاستثنائي، حكايات الماضي من خلال أكثر من 200 قطعة نادرة من العملات، من أكبر مجموعة خاصة للعملات الإسلامية في العالم، إلى جانب مقتنيات وزارة الثقافة التي يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل 3 قرون من الميلاد.
ويعزز المعرض قيمة النظر إلى قطع الذهب والفضة والبرونز من العملات التاريخية، بوصفها شواهد تاريخية حيّة، تتجاوز وظيفتها التقليدية كوسيلة للتبادل التجاري، إلى تجسيد تطور الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد في المنطقة، من خلال نقوشها، وتفاصيلها، وحكاياتها.
7 فصول لرواية المسكوكات
يتوزع المعرض على 7 أقسام رئيسية، هي: «العملات ما قبل الإسلام» بما حملته من رموز ودلالات عن طرق التجارة والسلطة، ثم «نشأة العملات الإسلامية وتطورها» التي جسّدت وحدة الحضارة الإسلامية وتنوّعها عبر العصور، يليه محور «النساء في العملات» الذي يبرز حضور المرأة في الذاكرة النقدية، وقسم «العملات الحِرَفية: سكّ الفن والثقافة» الذي يوضح تداخل البعد الجمالي مع الوظيفة الاقتصادية للنقود.
كما يضم المعرض قسماً عن «كنوز وعملات المملكة العربية السعودية» التي تروي قصة التوحيد وبناء الدولة الحديثة، إلى جانب «العملات والفن المعاصر» حيث تتحول النقود إلى مصدر للإبداع، ويُختتم المعرض بمحور «العملة التي لم تُسكّ» الذي يثير تساؤلات حول الرمزية والمفهوم قبل أن يكون للنقد حضور مادي.
نشأة العملات الإسلامية وتطورها
يتتبع المعرض تطور العملة الإسلامية الذي مثّل تحولاً مهماً في الهوية السياسية والدينية والثقافية؛ إذ اعتمدت التجارة في الجزيرة العربية قبل الإسلام على العملات الأجنبية.
ومع ظهور الإسلام، أقرّ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) استخدام العملات المتاحة في تلك الفترة، مع النهي عن التلاعب بأوزانها، واضعاً بذلك أساساً لنظام نقدي إسلامي مستقل ومميز.
وشهدت العملات الإسلامية أول تحول رئيسي في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري (القرن السابع الميلادي)؛ فاستُبدل بالرموز الأجنبية الخط العربي والشهادة، في إعلان صريح للاستقلال السياسي والديني، عُرف بتعريب العملة.
وبحلول عام 77 للهجرة (696م)، سُكّ أول دينار ذهبي إسلامي خالص، يحمل آيات من القرآن الكريم، وخالٍ تماماً من الصور، واستمر على هذا النهج لأكثر من 1000 عام.
وفي العصر العباسي الذي امتد بين عامَي 132 للهجرة (750م) و656 للهجرة (1258م)، أصبحت العملات الإسلامية أدوات رئيسية للتجارة، وأسهمت في توحيد الأمة الإسلامية من خلال اللغة والدين، وما تحمله من سلطات رمزية خالدة.
النساء في العملات
لطالما كانت العملات رموزاً للسلطة، وكان للنساء دور بارز في هذه الرواية التاريخية؛ فقد عكست المسكوكات التي حملت صورهن، وأسماءهن، وألقابهن، قوتهن السياسية ودورهن الراسخ، بدءاً من الإمبراطورات في العالمين اليوناني والروماني، وصولاً إلى النساء المؤثرات في التاريخ الإسلامي.
وفي العالم الإسلامي، لم تقتصر أدوار النساء على نظام الحكم والحياة العامة فحسب، بل امتدت بصماتهن إلى العملات التي خُلّدت عليها أسماؤهن أو ألقابهن، لتكون دليلاً مادياً على تأثيرهن، مما يعكس الأدوار البارزة التي حظي بها بعض النساء في تشكيل مجتمعاتهن، ويُبرز حضورهن السياسي والثقافي بشكل واضح، كما يتجلى في شخصيات مثل السيدة زبيدة، زوجة الخليفة هارون الرشيد، التي اشتهرت بتمويل مشاريع كبرى مثل طريق الحج وعين زبيدة في مكة المكرمة، مما سهل الحج على الحجاج من الأجيال القادمة.
ويعكس المعرض أن العملات تاريخياً لم تكن مجرد وسيلة للتبادل، بل تجسد إرثاً خالداً لمساهمات النساء في الحكم والثقافة والدين، وتشكّل تذكاراً دائماً لمكانتهن في المشهد التاريخي والسياسي للعالم الإسلامي.
ويغطي المعرض في رحلته عبر الأجنحة السبعة، ما تمثله المسكوكات والعملات عبر العصور، كسجل حيّ يعكس تطوّر المجتمعات ونشوء الدول وتغيّر الأنظمة الاقتصادية والسياسية، لتصبح شاهداً مادياً على الهوية الوطنية وذاكرة جماعية للمجتمعات.
ويمثل معرض «روايات مسكوكة» توثيقاً بصرياً وزمنياً لمسيرة السعودية والعالم الإسلامي عبر النقد والسكّ، من خلال ما تحمله العملات في طياتها من رسائل تاريخية ودينية وثقافية واجتماعية، وهي شاهد على ازدهار الحضارات ووحدة الأمم، ثم على مسيرة الدولة السعودية في التأسيس والتوحيد والتنمية.
ويضم المعرض مجموعة استثنائية من العملات والمسكوكات النادرة من مقتنيات الدكتور آلان بارون، أحد أبرز جامعي العملات التاريخية، إلى جانب مختارات فريدة من مجموعة وزارة الثقافة.
كما يقدّم أعمالاً فنية معاصرة بمشاركة الفنان زيمون الذي استلهم من رمزية النقود ودلالاتها البصرية، وذلك ضمن تصميم سينوغرافي مبتكر أبدعه غيث أبو غانم وجاد مالكي وفرح فياض، بمشاركة الدكتور نايف الشرعان المتخصص في تاريخ العملات الإسلامية؛ فقد تم دمج المشاهد الفنية والمعمارية لتجسيد أزمنة مختلفة في قاعة واحدة، في تجربة شاملة تجمع بين المعرفة الثقافية والمتعة البصرية، لحكاية قصة المسكوكات، وشهادتها على الهوية والسيادة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي صنعت ملامح المملكة والعالم الإسلامي عبر القرون الماضية.