نجح فريق بحثي دولي من “معهد الصحة والبحوث الفرنسي” بالتعاون مع “جامعة بوردو” الفرنسية، و”جامعة مونكتون” الكندية، في إثبات علاقة سببية مباشرة بين اضطراب نشاط الميتوكوندريا وظهور الأعراض الإدراكية المرتبطة بالأمراض التنكسية العصبية مثل “ألزهايمر”.
وتُعرف الميتوكوندريا، غالباً بـ”محطات الطاقة” في الخلية، حيث تلعب دوراً حيوياً في بقاء الكائنات الحية، وتُعتبر مسؤولة عن توليد غالبية إمدادات الخلية من أدينوسين ثلاثي الفوسفات التي تُعتبر العملة الأساسية للطاقة في الخلية، وتُستخدم لتشغيل جميع الأنشطة الخلوية.
وتحدث عملية إنتاج الطاقة داخل الميتوكوندريا عبر عملية التنفس الخلوي، إذ تقوم بتحويل الجلوكوز والعناصر الغذائية الأخرى إلى طاقة قابلة للاستخدام. وتتكون الميتوكوندريا من غشاء خارجي يحيط بها، وغشاء داخلي منطو يزيد من مساحة السطح لتعزيز إنتاج أدينوسين ثلاثي الفوسفات.
وبالإضافة إلى دورها في الطاقة، للميتوكوندريا وظائف أخرى مهمة، بما في ذلك تنظيم موت الخلايا المُبرمج المعروف باسم “الاستماتة”، وتخزين الكالسيوم، وإنتاج الحرارة.
وتورث الميتوكوندريا من الأم فقط، ما يسمح للعلماء بتتبع الأنساب الأمومية. ويمكن أن يؤدي أي خلل في وظائف الميتوكوندريا إلى مجموعة واسعة من الأمراض، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري.
وفي الدراسة المنشورة في دورية “نيتشر نيوروساينس” (Nature Neuroscience) اعتمد الباحثون على تطوير أداة مبتكرة أطلقوا عليها اسم mitoDreadd-Gs، وهي مستقبل صناعي قادر على تنشيط بروتينات “G” داخل الميتوكوندريا مباشرة، ما يحفز إنتاج الطاقة في الخلايا العصبية.
تم تطوير هذه الأداة بهدف التحكم في نشاط الميتوكوندريا، وتتميز هذه الأداة بقدرتها على استهداف الميتوكوندريا بشكل محدد وذلك من خلال توجيهها للتفاعل مع بروتينات G في الميتوكوندريا.
وتعتمد فكرة هذه الأداة على حقيقة أن مستقبلات بروتين G المقترنة وهي مستقبلات مهمة في الدماغ، يمكن أن تكون موجودة أيضاً على أغشية الميتوكوندريا، حيث تؤثر مباشرة على إنتاج الطاقة الخلوية.
أول دليل من نوعه
وعند تطبيق هذه التقنية على نماذج فئران مصابة بأعراض شبيهة بـ”الخرف”، لوحظ تحسن واضح في وظائف الذاكرة وعودة النشاط الميتوكوندري إلى مستوياته الطبيعية.
ويشير هذا التحسن، بحسب الفريق البحثي، إلى أن تراجع نشاط الميتوكوندريا قد يسبق فقدان الخلايا العصبية، وهو ما يغير النظرة السائدة التي كانت تعتبر الخلل الميتوكوندري مجرد نتيجة لاحقة للمرض ويفتح الباب أمام الميتوكوندريا كهدف علاجي جديد محتمل.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة، جيوفاني مارسيكانو، إن الدراسة تثبت للمرة الأولى وجود علاقة سببية بين خلل الميتوكوندريا وأعراض الأمراض التنكسية العصبية، ما يدعم فكرة أن الخلل في إنتاج الطاقة يمكن أن يكون المحرك الأولي لبدء تدهور الخلايا العصبية.
وبحسب الدراسة، فعندما تضعف قدرة الميتوكوندريا على إنتاج الطاقة، تقل فاعلية استقبال الناقلات العصبية في نقاط الاشتباك العصبي -المشابك العصبية- فيضعف التعلّم والذاكرة ويبدأ الأداء المعرفي في التدهور. وهذا النقص الطاقي ليس مشكلة بسيطة؛ إذ إنه يمكن أن يكون الشرارة الأولى لمسلسل أوسع من الخلل الخلوي.
ما هي الأمراض التنكسية العصبية؟
أمراض تصيب الدماغ وتؤدي إلى موت الخلايا العصبية وتقلص حجم الدماغ.
تحدث بسبب خلل في التواصل بين خلايا الدماغ، مما يؤدي إلى انهيارها وموتها.
تؤثر هذه الأمراض على العديد من الوظائف الحيوية مثل الحركة، والذاكرة، والكلام، والذكاء.
لا تزال أسباب معظم هذه الأمراض مجهولة بسبب تعقيدها.
أمثلة على الأمراض التنكسية العصبية:
مرض باركنسون (الشلل الرعاش): يرتبط بمشكلات في الحركة ويحدث بسبب موت الخلايا العصبية في منطقة المادة السوداء بالدماغ، والتي تنتج مادة الدوبامين الضرورية للتواصل مع العقد القاعدية المسؤولة عن الحركة ويؤدي إلى صعوبة في بدء الحركات، والارتعاشات، والتعثر.
داء هنتنجتون: مرض وراثي ينتقل من الأبوين إلى الأبناء ويؤثر على العقد القاعدية ويسبب تراكماً غير طبيعي للبروتين، ما يؤدي إلى موت الخلايا العصبية ويسبب حركات لا إرادية ومفرطة، مثل رعشة الأطراف.
الخرف: مصطلح عام يشير إلى فقدان الذاكرة وأشهر أنواعه مرض ألزهايمر وداء جسيمات ليوي ويحدث بسبب موت عدد كبير من الخلايا العصبية في مناطق مختلفة من الدماغ، ما يؤدي إلى فقدان الذاكرة، وصعوبات في التفكير والحركة.
العلاج والآمال المستقبلية
لا يوجد حالياً علاج شافٍ لهذه الأمراض، ويعمل العلماء على تطوير فكرة استخدام الخلايا الجذعية -وهي خلايا غير ناضجة يمكنها التحول إلى أي نوع من الخلايا، بما في ذلك الخلايا العصبية- لاستبدال الخلايا العصبية الميتة.
التحديات: رغم نجاح التجارب على الحيوانات، لا يزال هناك تحديات كبيرة في تطبيق هذه التقنية على البشر بأمان، مثل بناء هياكل داعمة لنمو الخلايا الجذعية داخل الدماغ.
وتميل الميتوكوندريا المريضة لإنتاج مزيد من الجزيئات التفاعلية المؤكسدة المعروفة باسم الجذور الحرة والتي تُحدث تلفاً في الدهنيات والبروتينات والحمض النووي داخل الخلايا.
ويؤثر تلف مكونات الغشاء والبروتينات مباشرة على نقل الإشارات وعلى بنية الخلايا العصبية، ويسهم في تشكل بروتينات مترابطة أو مشوهة تعرف ببعضها بأنها مرتبطة بأمراض مثل ألزهايمر وباركنسون.
كما تلعب الميتوكوندريا دوراً أساسياً في تنظيم أيونات الكالسيوم داخل الخلية، وخصوصاً عند نقاط الاتصال العصبي.
وإذا فقدت الميتوكوندريا قدرتها على امتصاص وتخزين الكالسيوم بصورة سليمة، يرتفع تركيز الكالسيوم داخل الخلايا وهذا يؤدي إلى فرط تنبيه الخلايا وتنشيط مسارات تؤدي إلى موتها المبرمج.
كما أن الميتوكوندريا ليست ثابتة الحجم، فهي تخضع لعمليات انقسام واندماج، كما تنتقل على طول المحاور العصبية لتغذية نهايات المحطة العصبية البعيدة، وإذا انهار توازن الانقسام والاندماج، أو تعطلت آليات النقل الخلوية، تصبح الميتوكوندريات صغيرة ومكسورة أو غير موجودة في الأماكن التي تحتاجها الخلايا أكثر؛ فتحرم المشابك الطرفية من الطاقة وتنهار الوظائف المحلية، ما يساهم تدريجياً في قصور شبكي واسع وموت محلي للخلايا.
أدلة متداخلة
وتتخلص الخلايا الطبيعية من الميتوكوندريات التالفة عبر آليات تنظيف داخلية، وعندما يفشل هذا النظام، تتراكم عضيات معطوبة تنتج طاقة أقل وتطلق سموماً داخل الخلية ويزيد تراكم الميتوكوندريا الحمل التأكسدي ويثير استجابة التهابية محلية في الدماغ، فتتدخل الخلايا الداعمة -مثل الخلايا البلعمية الصغيرة- وتغير البيئة العصبية إلى بيئة مضرة للناقلات العصبية.
وقال الباحثون إن الحمض النووي الموجود داخل الميتوكوندريا عُرضة للتلف مع التقدم في العمر، ويؤثر تراكم طفرات أو تلف في هذا الحمض النووي على جزيئات سلسلة نقل الإلكترون المسؤولة عن إنتاج الطاقة، ما يؤدي إلى قصور مزمن في تزويد الخلايا بالطاقة ويتجمع القصور عبر السنين ليضعف الاحتياطي الوظيفي للخلايا العصبية ويجعلها أكثر عُرضة للتدهور.
ولوقت طويل كانت الأدلة متداخلة بين كون خلل الميتوكوندريا نتيجة للمرض أو أحد أسبابه. لكن تجارب حيوانية حديثة أعادت تشكيل الصورة، بعد أن تمكنت التجارب من زيادة فعالية الميتوكوندريا عبر تنظيفها، ما أحدث تحسناً في وظائف الذاكرة والسلوك في نماذج حيوانية لأمراض التنكس العصبي.
ولا تثبت هذه النتائج بعد فاعلية علاجية على البشر، لكنها تقوي فرضية أن خللاً في الميتوكوندريا قد يكون سبباً مباشراً في مسار المرض، وليس مجرد علامة لاحقة.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة، إتيان هيبير شاتلين، الباحث في جامعة “مونكتون” أن الأداة قد تساعد مستقبلاً على كشف الآليات الجزيئية والخلوية المسؤولة عن الخرف، وتمهيد الطريق لاستهدافات علاجية أكثر فاعلية، وإن العمل سيتواصل لدراسة أثر التحفيز المستمر للميتوكوندريا لمعرفة ما إذا كان يمكنه تأخير فقدان الخلايا العصبية أو حتى منعه.
وأضاف الباحثون أن النتيجة العملية لهذه الدراسة تكمن في معرفة أن الميتوكوندريا تُمثّل هدفاً علاجياً واعدا، سواء عبر تعزيز إنتاج الطاقة، أو تحسين تنظيف العضيات التالفة، أو حتى تعديل ديناميكية الانقسام والاندماج، أو حماية الميتوكوندريا من الإجهاد التأكسدي.
ومع ذلك، وعلى حد قول الباحثين: “يجب أن نكون حذرين، فأمراض التنكس العصبي متعددة الأسباب ومعقدة، وما يصح في فأر مختبر قد لا ينتقل تلقائياً إلى البشر، فالبحث واعد لكنه يحتاج دراسات بشرية محكمة قبل الحديث عن علاجات عملية وشامل”.