نما إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة في أكثر من عام في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مما زاد الضغوط على صانعي السياسات لإعادة هيكلة اقتصادهم القائم على التصدير البالغ حجمه 19 تريليون دولار، في ظل الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وضعف الطلب المحلي التي تُفاقم المخاطر على النمو. ولعقود، كان لدى المسؤولين عن الحفاظ على ازدهار ثاني أكبر اقتصاد في العالم خيار تحفيز مجمعه الصناعي الضخم لتعزيز الصادرات في حال خفّض المستهلكون إنفاقهم المحلي، أو اللجوء إلى الخزانة العامة لتمويل مشاريع البنية التحتية المعززة للناتج المحلي الإجمالي.
لكن حرب التعريفات الجمركية التي شنّها الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوضحت بشدة اعتماد عملاق التصنيع على أكبر سوق استهلاكية في العالم، وحتى إن اقتصاد بحجم الصين لا يمكنه تحقيق نمو يُذكر من خلال بناء المزيد من المناطق الصناعية ومحطات الطاقة الفرعية والسدود، بحسب «رويترز». ولم تُعطِ مؤشرات يوم الجمعة سوى أمل ضئيل في حدوث تحوّل سريع، وكلما ساءت البيانات شهرياً، ازدادت الحاجة إلى الإصلاح إلحاحاً.
وقال فريد نيومان، كبير الاقتصاديين الآسيويين في بنك «إتش إس بي سي»: «يواجه اقتصاد الصين ضغوطاً من جميع الجهات… وسيكون من الصعب الحفاظ على الارتفاع القوي للصادرات، الذي دعم النمو في الأرباع الأخيرة، في العام المقبل، حتى لو جاءت الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات أقل مما كان متوقَّعاً. وهذا يتيح للطلب المحلي فرصة تعويض الركود، ولكن من دون مزيد من التحفيز الكبير، سيكون من الصعب عكس التباطؤ الأخير في كل من الاستثمار والاستهلاك».
وأظهرت بيانات المكتب الوطني للإحصاء أن الناتج الصناعي نما بنسبة 4.9 في المائة على أساس سنوي في أكتوبر، وهي أضعف وتيرة سنوية، منذ أغسطس (آب) 2024، مقارنة بزيادة قدرها 6.5 في المائة في سبتمبر (أيلول). وجاء النمو أقل من توقعات زيادة قدرها 5.5 في المائة في استطلاع أجرته «رويترز». وتوسعت مبيعات التجزئة، وهي مقياس للاستهلاك، بنسبة 2.9 في المائة الشهر الماضي، وهي أيضاً أسوأ وتيرة لها منذ أغسطس من العام الماضي، وانخفضت عن ارتفاع بنسبة 3.0 في المائة في سبتمبر، ومقارنة بزيادة متوقعة قدرها 2.8 في المائة.
* سياسات جديدة؟
يُقرّ صانعو السياسات بالحاجة إلى التغيير لمعالجة الاختلالات التاريخية بين العرض والطلب، وزيادة استهلاك الأسر، ومعالجة ديون الحكومات المحلية الضخمة التي تمنع المقاطعات – التي يبلغ حجم اقتصاداتها حجم دول – من الاعتماد على الذات. ومع ذلك، يُدركون أيضاً أن الإصلاح الهيكلي سيكون مؤلماً، ومحفوفاً بالمخاطر السياسية، في وقتٍ زادت فيه حرب ترمب التجارية الضغط على الاقتصاد.
وقال فو لينغ هوي، المتحدث باسم المكتب الوطني للإحصاء، في مؤتمر صحافي عقب إصدار البيانات: «لا تزال البيئة الخارجية محفوفة بعدم الاستقرار وعدم اليقين، بينما تواجه التعديلات الهيكلية المحلية ضغوطاً كبيرة». وانخفضت صادرات الصين بشكل غير متوقَّع في أكتوبر، وفقاً لبيانات الأسبوع الماضي؛ حيث يُكافح المنتجون لتحقيق أرباح في أسواق أخرى بعد أشهر من التركيز المُسبق على مواجهة تهديدات ترمب بالرسوم الجمركية.
ومن المُثير للدهشة أن مبيعات السيارات في الصين كسرت أيضاً سلسلة نمو استمرت ثمانية أشهر، على الرغم من التوقعات بتسارع وتيرة المشتريات قبل الإلغاء التدريجي للإعفاءات الضريبية المختلفة والدعم الحكومي. هذا أمرٌ مثيرٌ للقلق، إذ عادة ما يكون الربع الرابع هو الأقوى في مبيعات السيارات. وقد جاء هذا التراجع حتى مع إضافة يومٍ إضافي بسبب عطلة وطنية، الشهر الماضي، مقارنة بعام 2024.
وشهدت أرقام مبيعات التجزئة الرئيسية لشهر أكتوبر ارتفاعاً ملحوظاً بفضل مهرجان التسوق «يوم العزاب» في الصين، الذي اختتم يوم الأربعاء بعد أكثر من شهرٍ من العروض الترويجية على أكبر منصات التجارة الإلكترونية في البلاد.
ومع ذلك، ظلّ شعور المستهلكين باهتاً مقارنة بالسنوات السابقة، مما يشير إلى أن حتى الانخفاضات الحادة في الأسعار لم تُثر اهتمام المتسوقين. وقالت لين سونغ، كبيرة الاقتصاديين في بنك «آي إن جي»: «لا يزال فقدان الزخم في النصف الثاني من العام مُخيّباً للآمال بعض الشيء نظراً للأهمية المُعلنة للطلب المحلي».
وأرجعت سونغ هذا التباطؤ إلى الإلغاء التدريجي لبرنامج دعم التجارة الحكومية، مُضيفة أنه «من المُرجّح أن تكون هناك حاجة إلى توجهٍ سياسي جديدٍ لدعم الاستهلاك العام المُقبل».
* مشاكل هيكلية
وسيُشكّل تراجع الاستثمار مصدر قلقٍ مماثلاً لصانعي السياسات؛ إذ يُؤثّر انخفاض الثقة سلباً على الاقتصاد. وانكمش استثمار الأصول الثابتة بنسبة 1.7 في المائة في الأشهر العشرة الأولى على أساس سنوي، مُقارنة بانخفاضٍ مُتوقّع بنسبة 0.8 في المائة، بعد أن انكمش بنسبة 0.5 في المائة خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى سبتمبر. واجتمع الحزب الشيوعي الحاكم في الصين الشهر الماضي لرسم المسار الاقتصادي للبلاد للسنوات الخمس المُقبلة، مُتعهداً برفع حصة استهلاك الأسر من الناتج المحلي الإجمالي «بشكلٍ كبير»، مع التشديد في الوقت نفسه على ضرورة تعزيز قاعدتها الصناعية الضخمة.
وهذا يدفع بعض الاقتصاديين إلى التكهّن بما إذا كانت بكين ستُغري مُجدداً باتباع مسار «أقلّ مقاومة»، والوصول إلى أن تتبع الصين نهجها المعتاد في توجيه الموارد إلى الشركات الكبرى مع تجاوز المنتجين والأسر من القطاع الخاص. وهناك دلائل على حدوث ذلك بالفعل. وقال يوهان تشانغ، كبير الاقتصاديين في مركز الصين التابع لمجلس المؤتمرات: «يدعم هذا الرقم الرئيسي الشركات المملوكة للدولة في قطاع البنية التحتية». كما لم يُظهر التباطؤ المطول في قطاع العقارات في البلاد، وهو مخزن رئيسي لثروة الأسر، أي علامة على التراجع؛ حيث انخفضت أسعار المنازل الجديدة بأسرع وتيرة شهرية لها في عام.
وقال شو تيانشن، كبير الاقتصاديين في وحدة «إيكونوميكس إنتليجنس»: «المشكلات الهيكلية تُعيق النمو… ولا يزال هناك مجال للتحفيز، لكن المسؤولين يُفضلون تأجيله لعام 2026. تحتاج الصين فقط إلى نمو يتراوح بين 4.5 و4.6 في المائة في الربع الرابع لتحقيق هدف النمو البالغ 5 في المائة، لذا فإن استعدادهم لتقديم المزيد من التحفيز ليس قوياً».

