
كأنّ لبنان لم يكتفِ بما حمله من رماد الأزمات، حتى اشتعلت غاباته بألسنة نار لا ترحم. ألسنة تلتهم الأرزَ المعمّر، ذاك الشاهد الأخضر على تاريخ البلاد وهويتها، وكأنّ النار اختارت رمزه الوطني لتختبر مدى قدرته على البقاء وسط هذا الخراب المتراكم.
الحرائق امتدّت في أكثر من منطقة، حرقت جذورًا عمرها مئات السنين، وحوّلت المساحات الخضراء إلى رمادٍ يختلط برماد الأعمار والذاكرة. مشهدٌ مؤلمٌ يتكرّر كل عام، لكنّ ما يجعل الكارثة أشدّ وقعًا هذه المرة هو امتداد النيران إلى مناطق لم تطأها النار من قبل، كأنّ المناخ تغيّر واشتدّ غضب الطبيعة، أو كأنّ اليد البشرية دخلت على الخطّ، تزرع الشرارة عمدًا أو إهمالًا.
الحرارة المرتفعة والجفاف الطويل يوفّران الظروف الملائمة لاشتعال النار وانتشارها بسرعة مذهلة، لكنّ المريب أنّ بعض الحرائق تندلع في توقيتٍ متزامنٍ وعلى مسافاتٍ متباعدة، ما يثير أسئلةً مشروعةً حول العوامل التي تتجاوز المناخ إلى شبهة الفعل البشري المتعمّد، سواء بدافع الإهمال، أو الطمع «بالحطب والفحم»، أو الفوضى التي باتت سمة المرحلة.
وسط هذا المشهد المأساوي، تقف فرق الدفاع المدني والمواطنون بوسائلهم البسيطة في مواجهة النار، فيما تظلّ الإمكانات محدودةً والرياحُ عاتية. ومع كلّ شرارةٍ جديدة، يخسر لبنان جزءًا من رئته الخضراء، ومن ذاكرته الطبيعية التي لطالما شكّلت رمزًا للصمود والجمال.
الحرائق ليست حدثًا عابرًا، بل إنذارًا صارخًا بأنّ البيئة اللبنانية تُستنزف أمام أعين الجميع. فالمناخ الحارّ لا يُبرّر الإهمال، والعبث البشري لا يُغتفر حين يتحوّل إلى تهديدٍ للهوية والوجود.
لقد آن الأوان لتتعامل الدولة والمجتمع مع هذه الكارثة بعقلية الوقاية لا ردّة الفعل، عبر خططٍ مدروسةٍ لحماية الغابات، وتعزيز المراقبة الجوية، ومحاسبة كلّ من يعبث بهذه الثروة التي لا تُقدّر بثمن.
في النهاية، ستنطفئ النار، لكنّ السؤال سيبقى: من سيعيد للأرز هيبته، وللبنان خضرته، وللأرض أمانها؟

