كتب أحمد مصطفى في صحيفة الخليج.
رغم فشل التوقعات والتقديرات المستقبلية المستندة إلى نماذج وسيناريوهات تاريخية في كثير من الأحيان، إلّا أن الرجوع إلى التاريخ أمر ضروري للتقرير بشأن الحاضر والمستقبل. لا ينطبق ذلك على صناع القرار فحسب وإنما أيضاً على النخب والمثقفين ومن يشكلون الرأي العام، وأيضاً الأفراد بشكل عام.
فالتاريخ، بغض النظر عن أن روايته ليست بالضرورة دقيقة تماماً لأنه كما يقال «يكتبه المنتصر»، معين خصب لتفسير كثير من الظواهر في الحاضر بما يجعل المرء قادراً على استشراف المستقبل من دون مبالغات أو تصورات تفتقر للحد الأدنى من الموضوعية وبالتالي الدقة.
على سبيل المثال، ينتشر على نطاق واسع أن الولايات المتحدة في تراجع كقوة عظمى وكقطب سياسي وحيد في عالم ما بعد الحرب الباردة. ويجادل كثيرون بأن سياسة الإدارة الأمريكية الحالية بتوجّهها نحو الانعزالية والتركيز على «أمريكا أولاً» إنما تعبّر عن مسار ضعف وانهيار مكانتها في العالم. بالطبع هناك من بين الأصوات القائلة بذلك من ينطبق عليهم أصحاب «التفكير بالتمنّي» لموقفهم المسبق من أمريكا وسياساتها العالمية التي لا يمكن الدفاع عنها في كثير من الأحيان.
لكن هناك من بين الكتاب والمعلقين من يتفادى الهوى، باعتباره آفة الرأي، ويحاول أن يكون تحليله منطقياً وعقلانياً. وهنا تأتي أهمية التاريخ الذي وإن كان لا يدحض تماماً تلك الحجج على تراجع الدور الأمريكي في العالم لكنه يمكن أن يفسر كثيراً أن المغالاة في توقع «انهيار أمريكا» كما يروج البعض مجرد استسهال يريح البعض من دون أن يكون له أي أساس من المنطق.
فحتى ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما حتى بعدها، كانت الولايات المتحدة «منكفئة» على نفسها وغير معنية بأي دور عالمي واسع ومؤثر، مع أنها الوريث الشرعي للامبراطوريات الأوروبية التي كانت بدأت تنهار وينحسر دورها العالمي مع استقلال أغلب مستعمراتها السابقة. ولم تكن تلك الانعزالية ناجمة عن عدم القدرة، لا عسكرياً ولا اقتصادياً ومالياً. فقد كانت أمريكا وقتها متقدمة عسكرياً واقتصادياً بشكل يسبق أوروبا وغيرها من مراكز القوة التقليدية. وكان تدخلها العسكري إلى جانب الحلفاء حاسماً في الانتصار على دول المحور. كما أن دعمها الاقتصادي والمالي لأوروبا بعد الحرب كان في غاية الأهمية كي تقف أوروبا على قدميها مجدداً بعدما أنهكتها الحرب.
وظلت واشنطن، ربما حتى نهاية ستينات القرن الماضي، مترددة في توسيع دورها العالمي إلى أن أصبحت عملياً تقود المعسكر الغربي في مواجهة المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت فيما عرف بـ«الحرب الباردة».
الغرض من التماثل التاريخي هنا أن انعزالية الولايات المتحدة لم تحُل بينها وبين لعب دور قيادي عالمي فيما بعد، بل وأن تصبح قطباً هو الأهم في ميزان القوى الدولية. وبالتالي فالحديث عن أن التراجع الأمريكي سيسير في خط نزولي حتمي وأن السياسات الانعزالية الحالية هي انسحاب من العالم ودليل على التدهور حتى النهاية، لا يستقيم ولا يتسق مع ما تعلمنا من التاريخ.
من دروس التاريخ أيضاً أن الامبراطوريات التي توسعت بالاحتلال والاستعمار، كالبريطانية والفرنسية والبرتغالية وغيرها، في القرن الماضي حملت بذور نهايتها في توسعها ذلك. لكن العصر الأمريكي في العالم لم يشهد ذلك النمط من التوسع الإمبراطوري بالاحتلال والاستعمار المباشر. إنما ربطت واشنطن بها دولاً ومناطق مختلفة في العالم عبر السياسة والاقتصاد وغيرها من الأدوات.
مرة أخرى تأتي أهمية التاريخ في القياس والمناظرة بأن «الامبراطورية الأمريكية»، ليست مثل امبراطوريات القرن العشرين تحمل بذور نهايتها داخلها. بل على العكس، تميزت الولايات المتحدة منذ تكونها قبل قرون قليلة جداً بمرونة غير عادية تنعكس ليس فقط في اقتصادها الأكبر عالمياً ولكن أيضاً في أسلوب الحكم الفيدرالي لخمسين ولاية ضمن اتحاد قومي واحد.
هذا مجرد مثال واحد على أهمية التاريخ للحكم على الحاضر وتوقع المستقبل. لكن ذلك لا يعني بالطبع أن التحليلات والتعليقات التي ترى تراجع الدور الأمريكي عالمياً ليست صحيحة. فالشواهد الحاضرة على هذا التراجع جلية تماماً، والأرجح أن سياسات الإدارة الحالية ستزيد من هذا التراجع. ويبدو أثر ذلك واضحاً في كثير من الحالات الساخنة حول العالم التي لو لم تكن واشنطن تفقد قدراً من مكانتها الدولية؛ لاختلف شكل تلك الصراعات ونتائجها.
الأمثلة على أهمية التاريخ كثيرة، لذا لا عجب في أن كثيراً من برامج مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية تستخدم سيناريوهات تاريخية للقياس عند معالجة البيانات والأرقام لاستنتاج مؤشرات على الأداء المستقبلي للشركات والقطاعات. وإذا كان التاريخ في بعض الأحيان يحمل من الأمثلة والدروس ما يثبط الهمم فإن أغلبه يحفز على الإنجاز والتطوير والتقدم.
لا تعني أهمية التاريخ اعتماد السلفية في التفكير، ولا التحجر والغرق في «أوهام الزمن الجميل». فليس الماضي كله جميلاً ولا الحاضر كله ثقيلاً محبطاً. ولا يختلف هؤلاء الذين يتخذون من التاريخ تكئة للاستسهال وطريقاً للتخلف عن هؤلاء الذين يغالون في استحضار التاريخ وإسقاطه على الحاضر لتقديم رؤى مغالية للمستقبل. إنما هو التوازن الذي يضمنه العقل ويؤطره العلم ما يجعل أهمية التاريخ مؤثرة بشكل إيجابي في حاضرنا ومستقبلنا.