رغم التصريحات التي صدرت في الأيام الأخيرة عن المستشار الألماني، فريدريك ميرتس، ونائبه الاشتراكي الديمقراطي، لارس كلينغبيل، التي فتحت الباب لأول مرة أمام احتمال الاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما تتوفر الشروط اللازمة لمثل هذه الخطوة، ما زالت برلين العقبة الرئيسية الوحيدة أمام فرض عقوبات على إسرائيل كما تطالب غالبية الدول الأعضاء في الاتحاد.
لا للاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية… لا لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل… ولا لفرض عقوبات عليها… هذه مواقف ألمانيا التي تمسك بمفتاح الخطوات الأوروبية لمنع تفاقم المجاعة في قطاع غزة، لكنها ما زالت إلى الآن ترفض الانضمام إلى ركب الدول الأعضاء الأخرى التي تطالب برفع منسوب الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو.
يعترف الشركاء الأوروبيون بأن المستشار الألماني قد تجاوز جميع أسلافه، من حيث التشدد في خطابه وتصريحاته تجاه الحكومة الإسرائيلية، وقال إنه لم يعد يستبعد أي خطوة في اتجاه الضغط عليها، لكنهم يعتبرون أن إصراره على عدم عزل إسرائيل، والحفاظ على جميع قنوات التواصل مفتوحة معها، لم يعد مجدياً في هذه المرحلة ويهدد بأزمة عميقة داخل الاتحاد.
ورغم أن حلفاء برلين يتفهمون تأثير الموروث التاريخي على السياسة الألمانية تجاه الدولة العبرية، التي حددتها المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، بقولها: «إن الدفاع عن إسرائيل من المصالح العليا للدولة»، فإنهم يرون في الإصرار على هذا الدعم الدبلوماسي والعسكري غير المشروط شططاً إزاء الكارثة الإنسانية الفادحة في غزة.
الحكومة الألمانية من جهة تشدد على أنها ما زالت على موقفها الثابت المؤيد لحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، لكنها ليست حالياً في وارد الإعلان عن قرار مشابه للذي أعلنته مؤخراً الحكومتان الفرنسية والبريطانية. ويقول نائب المستشار الألماني: «ما زلنا ندافع عن حل الدولتين الذي ينطوي بطبيعة الحال على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن هذه الخطوة لا يجب أن تكون هي بداية العملية بل خاتمتها».
لكن الضغوط التي يتعرّض لها المستشار الألماني منذ وصوله إلى الحكم قبل ثلاثة أشهر، لا تقتصر فحسب على شركائه الأوروبيين، الذين يطالبون بموقف أكثر تشدداً حيال الارتكابات الإسرائيلية، التي وثّقها تقرير رسمي أوروبي، واعتبر أنها تشكل انتهاكاً لبنود اتفاقية الشراكة بين الاتحاد وإسرائيل، فهو يواجه أيضاً ضغوطاً متزايدة من حلفائه الاشتراكيين الديمقراطيين في الحكومة، ومن الرأي العام الألماني، ومن عدد يتنامى بين أفراد السلك الدبلوماسي، ويطالبون بسياسة أكثر تشدداً حيال حكومة نتنياهو. ولا شك في أن تصريحه الأخير عندما قال بأنه لم يعد يستبعد أي خطوة، قد أملته هذه الضغوط وعدم جدوى إصراره على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع إسرائيل.
الجديد في هذا الموقف الألماني أن ميرتس، عندما قال إنه ليس في وارد الاعتراف بالدولة الفلسطينية حالياً، أضاف: «في الوقت الحاضر»، وتحاشى انتقاد الخطوة التي أقدمت عليها فرنسا وبريطانيا، اللتان يسعى معهما إلى تشكيل هيئة أوروبية لمعالجة الأزمات العالمية. وكان بعد إعلانه مطلع هذا الأسبوع المشاركة في الجسر الجوي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، قد صرّح بقوله: «سنواصل تعديل موقفنا وإجراءاتنا في ضوء التطورات الميدانية».
لكن في غضون ذلك، تصر برلين على كبح أي محاولة داخل الاتحاد لاتخاذ تدابير ملموسة حيال إسرائيل، كما حصل هذا الأسبوع عندما رفضت تعليق بنود من اتفاقية الشراكة حول مشاركة إسرائيل في برنامج الابتكار الأوروبي للبحوث العلمية، وهو تدبير كانت المفوضية وصفته في تقريرها إلى المجلس بأنه مناسب وطارئ، لكن إقراره يحتاج لموافقة 55 في المائة من الدول الأعضاء يمثلون ما لا يقل عن 65 في المائة من سكان الاتحاد.
وكانت غالبية الدول تطالب بتعليق هذه البنود، كما أن مجموعة من البلدان الأعضاء طالبت بالذهاب أبعد من ذلك، لكن ألمانيا عارضت واستطاعت استقطاب بعض الدول الأخرى لتأييد موقفها، علماً بأن المعسكر الأوروبي الرافض لمعاقبة إسرائيل ليس مقصوراً على ألمانيا، بل يضمّ المجر والنمسا والجمهورية التشيكية، ويزداد الإحباط في صفوف الشركاء الأوروبيين من العقبات التي تستمر إسرائيل في وضعها أمام وصول المعونات الإنسانية الكافية إلى غزة، رغم الاتفاق الذي وقعته مع الاتحاد في العاشر من الشهر الفائت، وكان الذريعة التي حالت يومها دون أن يتخذ المجلس الأوروبي عقوبات ضدها في اجتماعه الأخير منذ أسبوعين. وتقول المصادر الأوروبية إن إسرائيل لم تلتزم بنود ذلك الاتفاق، الذي نصّ على تأمين دخول ما لا يقلّ عن 160 شاحنة مساعدات يومياً إلى القطاع، وتوفير 200 ألف لتر من الوقود، وإعادة فتح عدد من المعابر في الشمال والجنوب.
ويتساءل الأوروبيون إلى أي مدى يمكن أن تؤثر بشائر التبديل هذه في الموقف الألماني، علماً بأنه، باستثناء الولايات المتحدة، تعتبر ألمانيا الحليف الأوثق بين البلدان الغربية الكبرى. ويعترف مسؤولون في الاتحاد بأن النقاش الدائر حول العقوبات على إسرائيل قد يكون خاضعاً لمقتضيات السياسة الداخلية في البلدان الأعضاء، لكن تأثيره يبقى هامشياً جداً في إسرائيل التي أظهرت أكثر من مرة استخفافاً واضحاً بالمواقف والتحذيرات الأوروبية.