قبل أيام قليلة من حفل توزيع جوائز إيمي الـ77، ومن خلال القراءات المبكرة لميول المصوتين، كان واضحاً أن مسلسل The Pitt يتصدر سباق أفضل مسلسل درامي (جاد، وطويل، مقارنة بسباقي أفضل مسلسل كوميدي، وأفضل مسلسل محدود الحلقات)، متفوقاً على Severance (صاحب أكبر عدد من الترشيحات لـ23 جائزة) وThe White Lotus وعدد آخر من الأعمال المتميزة التي شهدها العام.
أفضل مسلسلات المستشفيات
قد يبدو The Pitt للوهلة الأولى مجرد دراما طبية، سبق أن رأيناها على مدار 15 موسماً في ER (الذي أطلق نجومية جورج كلوني في تسعينيات القرن الماضي، واستمر من 1994 إلى 2009) أو مسلسل House الذي استمر لـ8 مواسم من 2005 إلى 2012، وغيرهما من مسلسلات المستشفيات.
مثل الأعمال المذكورة يدور The Pitt داخل أروقة قسم الطوارئ ويركز على 3 محاور: التفاصيل الطبية المعقدة والتثقيفية لكثير من الأمراض والأعراض وطرق العلاج.
طبيعة العمل المضني داخل قسم الطوارئ من زحام وكوارث وحوادث ودماء وآلام وسباق مع الزمن، وصراع بين الحياة والموت يصل إلى حد الجنون أحياناً.
وأخيرا تأثير العمل على الأطباء والممرضين والعلاقات الشخصية (من تعاون وتنافس وعلاقات عاطفية بين العاملين والعاملات داخل المكان).
يدور The Pitt حول هذه المحاور أيضاً، التي أسسها مسلسل ER وأصبحت نموذجاً نمطياً لمسلسلات المستشفيات، وليس هذا التشابه غريباً لإن ثلاثة من أهم صناع ER هم العقول المدبرة والمنتجة والمنفذة لـThe Pitt وهم المنتج آر سكوت جيميل والكاتب والمخرج والمنتج المنفذ جون ويلز، بجانب الممثل نواه وايل، الذي بدأ حياته كطبيب متدرب في ER!
إعجاز شكلي!
وايل الذي حصل على إيمي أفضل ممثل أهدى الجائزة للعاملين في المستشفيات سواء القادمين من نوبة عمل Shift أو الذين انتهوا للتو من نوبة عمل، التحية تحمل أيضا إشارة إلى أهم عنصر فني في The Pitt.
على مدار 15 حلقة بمتوسط 50 دقيقة لكل حلقة تدور أحداث المسلسل خلال نوبة عمل يوم واحد استثنائي على مدار 15 ساعة، أي أن زمن الدراما هو الزمن الواقعي للأحداث المعروضة، حيث يحمل عنوان كل حلقة ساعة (من “السابعة صباحاً”، وحتى “التاسعة مساءً”) وهو شئ مذهل في المسلسل الذي يمتلئ بالأشياء المذهلة.
ومقارنة بمسلسلات المستشفيات السابقة يبدو The Pitt قفزة كبيرة ليس فقط على مستوى الشكل الفني، ولكن على مستوى المضمون وتصويره “الواقعي” لأنواع الأمراض والإصابات، ويكفي أنه يبدأ بواقعة سيدة تسحق ساقها عربة قطار، ويتعين على الأطباء أن يمسكوا بقدم المرأة وخلعها، ما يدفع إحدى الطبيبات المتدربات، وربما يدفع بعض المشاهدين أيضاً، إلى الإغماء!
يوم طويل عصيب
حين تشاهد The Pitt فكأنك انتقلت بالفعل لتقضي يوماً عصيباً في قسم للطوارئ، يبدأ في السبعة والنصف صباحاً بفترة قدوم المرضى المسنين الذين يعثر عليهم في حالة حرجة عند الاستيقاظ صباحاً في بيوت المسنين، وينتهي بعشرات المصابين في إطلاق نار عشوائي، يشحنون إلى المستشفى بإصابات تتراوح بين القاتلة والسطحية، وما بينهما من عشرات الحالات الأخرى الغريبة: أم تدعي المرض لكي يصحبها ابنها المراهق إلى المستشفى، حيث تبدي للأطباء شكوكها بأن ولدها ربما ينوي قتل عدد من الفتيات في مدرسته (وتزداد الشكوك في الابن بعد حادث القتل الجماعي).
زوج وأب مصاب بأزمة قلبية يتبين أن الأم كانت تدس له نوعاً من الدواء بهدف إبطال غريزته الجنسية لإنه يتحرش بابنتهما، طفل مصاب بشبه غيبوبة يتبين أنه تناول حلوى بالمخدرات وجدها في جيوب بنطال أبيه. وحالات كوميدية مثل المرأة المجنونة بالتعري ومغازلة أطباء المستشفى، والرجل الذي يطلب ساندوتشاً كل عشر دقائق وعامل النظافة المتقاعد المصاب بالخرف والذي يأتي للعمل معتقداً أنه لم يزل في الخدمة.
على الجانب الآخر يبدأ المسلسل بعدد من طلبة الطب المتدربين يأتون للمستشفى في أول يوم عمل لهم، كل منهم له شخصية وحكاية تستحق أن تروى، من ابنة الطبيبة الكبيرة بالمستشفى التي تخفي هويتها إلى الشاب القروي الفقير الذي يخبر أحد زملاءه بأنه سيظل يسدد نفقات دراسته لسنوات طويلة قادمة، والذي يضطر للإقامة في إحدى غرف المستشفى لإنه لا يملك إيجار شقة، والطبيبة الشابة التي تعاني من ذكريات طفولتها المؤلمة والثانية التي لديها أخت مصابة بالتوحد.
هؤلاء يعانون أيضاً لكي يشقوا طريقهم في الحياة، بينما يعاني الأطباء الأكبر من ضغوط العمل التي تؤثر على نفسياتهم: واحد يلجأ للمخدرات، وثانية لا تستطيع التحكم في مشاعرها بين الإثارة المفرطة وحدود الانهيار العصبي، أو كبيرة الممرضات (بأداء كاثرين لاناسا الذي فازت عنه بجائزة إيمي)، والتي تقرر تحت وطأة الضغوط أن تترك العمل في نهاية اليوم، وعلى رأسهم الدكتور روبي (نواه وايل) الذي يعاني من اضطراره إلى التضحية بحياة أحد أساتذته خلال أزمة وباء كوفيد19، لإنقاذ أرواح حياة آخرين، وبالمناسبة حصل المسلسل على جائزة إيمي لأفضل “اختيار ممثلين”، وأعتقد أنها الجائزة الأكثر استحقاقاً له، ففريق الممثلين، خاصة الشباب الصغار، أكثر من رائعين.
دقة مدهشة
من أفضل عناصر The Pitt أيضاً التفاصيل الطبية التي دفعت مؤسسات الأطباء الأمريكية إلى الإشادة بدقتها، في الحقيقة يمثل العمل دروساً طبية مجانية، مصاغة في قالب درامي مشوق، لهواة الطب وربما كل الناس الذين يحتاجون إلى معرفة كثير من هذه الأشياء.
كانت هذه التفاصيل أحد أسباب نجاح ER و House، ولكن يمكن القول أنها مقدمة بشكل خفيف وعابر في ER ومقدمة في قالب التحقيق البوليسي في House، حيث ترسم التشابهات بين بطل العمل والمحقق شيرلوك هولمز.
هناك تشابهات بالطبع بين عمل الطبيب والمحقق البوليسي: كلاهما يستنتج أصل العلة (أو مرتكب الجريمة) من خلال قراءة الأعراض والتفاصيل المحيطة، وعملية “التشخيص” هذه هي أهم شئ في عمل الطبيب، وتعادل عملية جمع الأدلة بالنسبة للمحقق.
هذه اللعبة العقلية التي تعتمد على مدى ذكاء الطبيب والمحقق ومدى ثقافتهما وخبرتهما غالباً ما تكون مصدراً للتشويق والابهار الدرامي في نوعي الدراما البوليسية ودراما المستشفيات.
والكثير من هذا التشويق موجود في The Pitt، بالإضافة إلى بعض الحلول المدهشة التي يبتكرها الأطباء أحياناً لمواجهة نقص المعدات أو الأدوية أو ضرورة التصرف السريع.
براعة “الميزانسين”
كل ذلك مجرد كلام على الورق، يتوقف مدى نجاحه على جودة التنفيذ الفني للعمل، ويتميز The Pitt بعظمة التنفيذ خاصة من خلال ثلاثة عناصر فنية شديدة التميز: التمثيل وقد أشرت إليه، والمونتاج، و”الميزانسين”، أي حركة الممثلين والكاميرات داخل المشهد، والذي يعطي الإحساس بواقعية وتدفق الأحداث كما لو أن المسلسل كله، بحلقاته الـ15، عبارة عن لقطة واحدة طويلة داخل قسم الطوارئ بإحدى المستشفيات بالفعل.
ورغم أنني شاهدت آلاف الأفلام والمسلسلات في حياتي، إلا أنني توقفت أكثر من مرة أثناء العمل لأذكر نفسي بأنني أشاهد “تمثيلية” تعتمد على الخدع البصرية والتقطيع والمونتاج، أو لمراجعة الطريقة التي نفذت بها بعض هذه التقنيات الفنية.
مهنة اليأس والأمل
The Pitt هو أعظم تحية يمكن تقديمها لمهنة الطب والأطباء الذين يشبههم أحد الأبطال في نهاية العمل بـ”النحل الذي يحمي الخلية”، وبالمهنة الوحيدة التي تحمي إنسانيتنا وعقولنا وسط الجنون والحروب التي تملأ العالم.
بشكل ما يشبه قسم الطوارئ القبر أو “الحفرة” Pitt التي يقع فيها الإنسان، كما يشبه خلية النحل Hive التي يعمل فيها النحل دون توقف من أجل الحياة.
إن ما يميز المسلسل فوق كل شئ، هو نظرته الفلسفية الإنسانية إلى الوضع الإنساني بشكل عام: هذا الضعف تجاه الموت والمرض والجريمة والقسوة والجنون الفردي والجماعي، وقوة التمسك بالأمل في مواجهة ذلك كله، أوكما يقول الدكتور روبي: “هذا المكان يمكن أن يفطر قلوبكم، ولكنه مليئ بالمعجزات”!
هذا عمل من الشاق مشاهدته، ومن شدة اتقانه يجعلك تشعر بأنك انتقلت شخصياً إلى هذا المكان الذي يمكن أن يفطر قلبك، بالرغم من أنه سيشيع فيه بصيصاً من الأمل في النهاية.
* ناقد فني
